غزة: إنه دور «الجنرال إعلام» الحاسم
لكاتب هذه السطور مجموعة عادات يحرص عليها قبل وأثناء كتابته لمقالاته، أبرزها من حيث الشكل والأمانة العلمية، أن يقوم بمراجعة كل ما يمكن أن يصل إليه من كتابات سابقة، صحفية وأكاديمية، في الموضوع الذي يزمع الكتابة فيه.
وبمناسبة المقال الحالي وفور الاستقرار على فكرته الرئيسة وتأكيداً لهذه العادة، عثر الكاتب على مقال قديم منشور على أحد المواقع الإخبارية السورية قبل عشرة أعوام، يحمل تقريباً نفس عنوان المقال الحالي، وهو «الجنرال إعلام»، وقد عالج فيه زاوية مختلفة تماماً عما سيرد في السطور الحالية لهذا العنوان.
بغض النظر عن الدقة العسكرية والاستراتيجية للمصطلح الشائع استيحاءً من التاريخ الروسي، “الجنرال شتاء” أو “الجنرال صقيع” أو “الجنرال وحل”، فقد وقر في أذهان الغالبية ممن يعرفونه ومن المؤرخين، أنه بالفعل العامل الرئيس أو المهم في قدرة روسيا ومن بعدها الاتحاد السوفياتي على تحقيق انتصارات عسكرية كبرى شهدها التاريخ الحديث.
ففي عديد من الحروب في هذا التاريخ، كان لفصل الشتاء الروسي القارس البرودة والمرتبط بتراكم هائل للثلوج والأوحال في ميادين المعارك، هذا الدور الذي وصل به إلى التسميات السابقة التي تضيف للقدرات العسكرية الروسية الواقعية قدرة أخرى طبيعية مناخية، ترقى إلى مرتبة قيادة “جنرال” كبير.
وقد كانت أبرز الحروب التي ارتبط بها دور هذا “الجنرال”، فشل الغزو السويدي للأراضي الروسية في بدايات القرن الثامن عشر، ثم اندحار جيوش نابليون الفرنسية المترامية من موسكو عام 1812 لتنهار بعدها أسطورة الإمبراطور الغازي، وأخيراً الهزيمة الساحقة التي لحقت بقوات هتلر النازية الهائلة، بدءاً من عام 1941 في الحرب العالمية الثانية، لينتهي الأمر بهزيمة الجيش السوفياتي لها ودخوله النصف الشرقي من عاصمته برلين.
وفي الحرب الحالية الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة منذ شهور ثمانية، يكتشف المدقق أن هناك “جنرالاً” مهماً للغاية لعب ولا يزال أدواراً رئيسية لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحقوقه الوطنية المشروعة، إنه “الجنرال إعلام”. وقد كان أول من اكتشف أهمية هذا “الجنرال” مؤخراً هي الولايات المتحدة أثناء غزوها مع بريطانيا للعراق عام 2003، فمنعت وجود الإعلاميين والصحفيين في الأراضي العراقية إلا برفقة قواتها وعدم تحركهم إلا بإذن منها، حتى لا يقوموا بتغطيات “حرة” تكشف ما تسعى هذه القوات لإخفائه، وهو ما حدث جزئياً بعد هذا الحظر.
وقد فهمت دولة الاحتلال الإسرائيلية جيداً خطورة “الجنرال إعلام” منذ اليوم الأول لحربها الدموية على غزة، فحظرت أي دخول من أراضيها لأي مراسل أجنبي للقطاع، عدا مرتين اصطحبت قواتها معها عدداً قليلا للغاية من وسائل الإعلام الأمريكية ولبضعة ساعات في بداية الحرب.
ولما تقدم الصحفيون الفلسطينيون بكل مهنية وشجاعة لكي يوصلوا – بقدر وسائلهم البسيطة – للعالم حقيقة الإبادة والدمار الشامل الذي يلحق بغزة، لم يتردد جيش الاحتلال في قتل ما يزيد عن 140 منهم، بخلاف عائلات بعضهم، وهو العدد الذي يتجاوز كل الصحفيين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية بسنواتها الست.
وبالرغم من هذا، فإن “الجنرال إعلام” لعب دوراً هائلاً ومركزياً في تطور هذه الحرب العدوانية وفي التغيرات الدراماتيكية غير المسبوقة في وضعية إسرائيل وصورتها في العالم، وفي مكانة وتأييد قضية الشعب الفلسطيني العادلة عالمياً. أتى التطور الهائل في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لكي يحاصر مع الصحفيين الفلسطينيين الشجعان في الإعلام التقليدي، حول العالم كله، شعوباً وحكومات، الجيش الإسرائيلي ودولته للمرة الأولى في تاريخها.
نجح “الجنرال إعلام” في نقل الحقيقة البسيطة كما هي على الأرض: دولة احتلال يمارس جيشها كل صنوف الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب الأخرى، وشعب صغير صامد ومقاوم بما لم يخطر ببال أحد، رافضاً الاستسلام والتنازل عن حقوقه الوطنية المشروعة. كان هذان هما سلاحا “الجنرال إعلام” في اختراقه لكل الحجب القديمة ونسفها والوصول لكل مكان بالمعمورة.
نجح “الجنرال” الذي بات جزءاً عضوياً من صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني، في تدمير كل الأكاذيب التي اختلقتها دولة الاحتلال ونشرتها حول العالم، حول حقيقة ما حدث ويحدث في الأراضي الفلسطينية منذ أكثر من سبعة عقود، وأصبح “الملك عارياً” أمام الجميع.
وحتى التحركات السياسية والدبلوماسية لدول العالم ومنظماته الأممية التي تتجمع في مواجهة إسرائيل يوماً بعد آخر، كانت حصيلة واستكمالاً للدور الحاسم الذي نجح فيه “الجنرال إعلام”. إن الأمر ليس أبداً مجرد دور لعبه “الجنرال” بمهاراته المهنية، بل هو في الأصل وقبل كل شيء اصطفاف أمين بجانب قضية عادلة واضح تماماً وجهاها: شعب صامد مقاوم، واحتلال يبيد ويدمر بلا هوادة ولا رحمة.