فرصة للسلام بعد الحرب.. مسؤولية عربية أولاً
هناك فرصة، بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزّة، للشروع في عملية سلام، وينبغي التقاطها ودعمها بخطة وتوافق عربيين، ما دامت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأساسية مؤيّدة لهذا التوجّه ومتوافقة عليه للمرّة الأولى منذ زمن طويل، وتحديداً منذ بدأ زخم تطبيق اتفاقات أوسلو يتراجع، أي قبل نحو ثلاثة عقود. ليس واضحاً بعد ما إذا كانت فكرة «مؤتمر دولي للسلام» يمكن أن تتحقق في ظل الانقسام الحالي، رغم أن الأطراف المتناقضة جميعاً تحدثت في مناسبات عديدة أخيراً عن ضرورة تحقيق «حلّ الدولتين»، أي إقامة دولة فلسطينية وفقاً للمرجعيات الدولية. لكن إذا لم تتوفّر الظروف الملائمة لمؤتمر كهذا، فإن المصلحة العربية تقتضي تفعيل أي صيغة ممكنة للخروج من تداعيات الحرب الحالية بما يؤسس لمرحلة سلام حقيقي وواقعي يكون فيه للعرب دورٌ أساسي، بدلاً من ترك الملف الفلسطيني لأجندات جهات أخرى بما فيها إسرائيل نفسها.
أكثر ما برهنته الحرب على غزّة كان فشل حصر المسألة الفلسطينية بطرفيها المباشَرين، وفشل إبعادها عن أسسها القانونية. والأهمّ أنها أظهرت خطورة تغليب موازين القوى، وهي مختلّة أصلاً، بين مَن يستخدم ترسانته العسكرية الهائلة لإدامة الاحتلال وفرض إرادته على شعب آخر، وبين مَن يتمسّك بحقائق تاريخية وجغرافية وإنسانية للحصول على حقوقه المعترف بها من القانون الدولي. فمعادلة موازين القوى ما كان لها أن تنتج سلاماً يمنح الحقَّ لصاحبه ويحترم تطلّعه إلى العيش بكرامة، لذا أخفقت المفاوضات تدريجاً إلى أن توقّفت كليّاً ليبدأ البحث عن صيغ أخرى للتسوية.
كان بإمكان الطرف الأكبر، أي الأميركي، الذي قدّم نفسه دائماً راعياً ووسيطاً حصرياً، أن يطرح مبادرةً قادرةً على اختراق الجمود، لكنه لم يفعل، وعندما حاول لم ينجح، وحين طرح ما سمّيت «صفقة القرن» جاءت بالغة الانحياز مما اضطر حلفاء عرباً لطلب تجميدها أو تعديلها، وعندما يجرّب حالياً الضغط لوقف إطلاق النار بعدما تفشّى الجوع في غزّة ودُمّرت مقوّمات الحياة فيها إذا به يكتشف أن جهده جاء متأخّراً جداً. كلّ ما تقدّم يشير إلى أن الحرب وفّرت دروساً كثيرة تجري حالياً ترجمتها إلى حلول على مستويات عدّة: الوضع الفلسطيني الفلسطيني، العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية المفترضة، المساهمات والأدوار وخصوصاً الضمانات التي يمكن أن تقدّمها الأطراف العربية والدولية.
وكما قيل في سياق الحرب من أنها لم تأتِ من فراغ، فإن الحلول نفسها يمكن أن تستند إلى الكثير من الأفكار والاقتراحات التي دُرست سابقاً بين طرفَي الصراع الأساسيين ولم يتوصلا معها إلى إنضاج اتفاقات. وليس من قبيل الصدفة أن تُستعاد «المبادرة العربية» أميركياً بعدما تلقتها واشنطن بشيء من الترحيب حين أقرّت عام 2002، لكنها لم تعتمدها، رغم أنها تضمّنت خريطة طريق واضحة لإنهاء الصراع وبناء الاستقرار في المنطقة.
تبدي كلُّ الدول المعنيّة اهتماماً بجعل حرب غزّة آخر الحروب، فهي ستنتهي عسكرياً ولو تطلّب ذلك بعضاً من الوقت، لتبدأ مرحلة سياسية بالغة الأهمية ينبغي أن تُظهر فيها الأطراف جميعاً، ولا سيما الأميركي والإسرائيلي، أنها أجرت مراجعة كاملة لما حصل سابقاً من أخطاء ومن تبديد للفرص، وأن الإرادة التي باتت يجمعها هي التوصّل إلى سلام منصف ومبني على القانون الدولي. تصويب الأخطاء بات مسؤولية المجتمع الدولي برمّته، وبالأخص مسؤولية الدول العربية الأساسية، فكلّ المحاولات التي بُذلت لتجاهل المسألة الفلسطينية، واعتبار أن الوقت وحده كفيل بحلّها، كانت ترمي إلى جعل الظلم واقعاً مقبولاً من الشعب الفلسطيني، لكنها لم تنجح.