فرنسا تحت زلزال الإضرابات والاحتجاجات
شهدت فرنسا، خلال عام 2019، أكبر موجة احتجاجات في البلاد منذ ما يزيد على 5 عقود، بدأت في فبراير/شباط، مع مظاهرات دعت إليها النقابات العمالية مع محتجي “السترات الصفراء“، اتخذت منحى غير مسبوق مع عاصفة احتجاجات تردي الأوضاع المعيشية، مروراً باحتجاجات السكك الحديدية وطلاب المدارس، والمعلمين إلى جميع قطاعات الدولة في نهاية العام ديسمبر/كانون الأول الجاري.
ورغم انخفاض زحم احتجاجات السترات الصفراء التي اندلعت العام الماضي، إلا أن الإضرابات والاحتجاجات هذا العام الأكثر فعالية وحشداً بفعل النقابات العمالية في فرنسا، متوعدين باستمرار الإضرابات حتى نهاية العام.
وخلال عام 2019 أضربت فئات مختلفة احتجاجاً على تدابير الحكومة الفرنسية في عدة قطاعات، بداية من الموظفين في الدولة، للمطالبة بزيادة الأجور، والمعلمين احتجاجاً على إصلاح نظام التعليم، ومع حلول نهاية العام كان الغضب يجتاح مختلف الفئات الاجتماعية في فرنسا؛ احتجاجاً على إصلاح قانون نظام التقاعد الذي استمر حتى نهاية العام، وأدى إلى شلل تام في أنحاء البلاد بمعظم القطاعات الحيوية، في أكبر تحدِ لولاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
ويرى المراقبون أنه رغم الحصاد الاقتصادي الجيد للرئيس الفرنسي خلال عام 2019 بتقييم نصف ولايته خمس سنوات، لكن الحصاد الاجتماعي سيئ بفعل الاحتجاجات والإضرابات المتواصلة نتيجة التدابير التي تعلنها الحكومة الفرنسية.
وفي فبراير/شباط، نظمت “الكونفدرالية العامة للعمل” و”اتحاد النقابات” مع معارضي “السترات الصفراء” وأحزاب يسارية في فرنسا، إضرابا لمدة يوم واحد ومظاهرات للمطالبة بزيادة الأجور والعدالة الضريبية وضمان الحريات.
وشاركت نحو 30 مقاطعة فرنسية في الإضراب، وخرجوا في مسيرات صفراء، وفقاً لما أعلنه الأمين العام للنقابة العمالية فيليب مارتينيز.
واستجاب الآلاف لدعوتهم بالدخول في إضراب، ومقاطعة الحوار الوطني الذي أطلقه الرئيس الفرنسي، بحسب إذاعة “فرانس بلو”.
وبموازاة الإضرابات، خرجت أكثر من 160 مظاهرة، لا سيما في القطاع العام وتحديدا في دائرة مكافحة “الغش”، وفي النقل العام لا سيما في هيئة النقل في باريس “إر .إي.تي.بي” والشبكة الوطنية للسكك الحديدية “إس إن سي إف”.
في مايو/أيار دعا العاملون في القطاع الحكومي بفرنسا، الذي يشغل حوالى 5,5 ملايين موظف، إلى الإضراب والتظاهر، ضد مشروع قانون يسمح خصوصا بتسهيل اللجوء إلى المتعاقدين كضرورة لجعل الإدارات “أكثر جاذبية وفاعلية” في مواجهة “التوقعات الجديدة” للفرنسيين.
ووجهت الدعوات إلى العاملين في قطاعي الكيمياء والتجارة وسكك الحديد والمتقاعدين الذين تظاهروا إلى جانب المعلمين والممرضين ورجال الجمارك وموظفي المالية العامة، للدفاع عن مهامهم وعن خدمات عامة تتسم بنوعية جيدة.
ويعد هذا التحرك الرابع لموظفي الدولة منذ بداية ولاية ماكرون، بعد التعبئة التي جرت في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2017 و22 مارس/آذار و22 مايو/أيار 2018.
ودعت النقابات التسع للوظائف الحكومية، آنذاك لنحو 150 تظاهرة في جميع أنحاء فرنسا، للتنديد بهذا التعديل الذي اعتبرت أن نتيجته خطيرة جدا على الموظفين وعلى مستقبل الخدمات العامة على حد سواء.
وترغب الحكومة الفرنسية في دخوله حيز التنفيذ في الأول من يناير/كانون الثاني 2020، وهو يندرج في إطار إلغاء 120 ألف وظيفة بحلول 2022.
وفي يونيو/حزيران دخل المعلمون في فرنسا في موجة إضراب واسعة احتجاجاً على إصلاح نظام التعليم في فرنسا.
ومنذ انطلاق اختبارات الثانوية العامة في فرنسا، بدأ المعلمون إضراباً عن العمل، يشمل المراقبة على الاختبارات وتصحيحها، بهدف الإعراب عن غضبهم تجاه الحكومة، ومحاولة الضغط عليها حتى تعيد فتح المفاوضات بشأن إصلاحات المدارس الثانوية والكليات وتطبيق الخدمة المدنية على المعلمين، وشاركهم الإضراب مصححو الاختبارات ببعض المدن.
ويرى المعلمون أن هذه الإصلاحات المتسرعة ستُحوِّل الاختبارات على مستوى قومي إلى شهادة محلية لا قيمة لها.
وفي يوليو/تموز، حذّر جون ميشيل بلانكر، وزير التعليم الوطني الفرنسي، من تأخير إعلان نتائج امتحانات الثانوية العامة الفرنسية، بسبب إضراب المعلمين المُصحّحين للاختبارات، احتجاجاً على قانون إصلاح نظام التعليم.
وقال بلانكر، في تصريحات لمحطة “بي. إف. إم. تي. في” الفرنسية: “هناك خطر من عدم حصول بعض الطلاب على نتائج الباكالوريا (الثانوية الفرنسية) الجمعة المقبلة بسبب إضراب المعلمين”.
وخلال الشهر نفسه، إضراب أطباء الطوارئ في مستشفيات فرنسا شمل 84 مستشفى في أنحاء البلاد.
وكانت دعوات الإضراب بدأت منتصف مارس/آذار الماضي، بعدما أطلقت الحركة الاجتماعية لموظفي الطوارئ في مستشفى باريس سان أنطوان، الدعوة للإضراب، بعد سلسلة من الهجمات والعنف ضد الموظفين، وفق محطة “فرانس.إنفو” الفرنسية.
وواصلت عدة حركات اجتماعية دعواتها لتوسيع نطاق الإضراب في جميع أنحاء فرنسا للمطالبة بتحسين الأوضاع، ليشمل أكثر من 20 فئة، أبرزها الإسعاف والممرضون وموظفو الاستقبال والأطباء ومساعدو المرضى، وذلك تزامنا مع مؤتمر “العاملين بالطوارئ” في باريس.
ومن بين مطالب الحركة “الاعتراف بخصوصية العمل في هذه الخدمات (الطوارئ)، والمطالبة بمزيد من الموظفين والموارد”.
ونتيجة لإضراب موظفي الطوارئ، تدخلت الشرطة الفرنسية لإجبار الموظفين على الحضور بالقوة لإغاثة المرضى.
وفي سبتمبر/أيلول شهدت العاصمة الفرنسية باريس إضرابا واسعا لعمال قطاع المواصلات العامة (مترو، حافلات، ترامواي…) احتجاجا على مشروع قانون إصلاح معاشات التقاعد، ما أصاب شللا في وسائل النقل.
وتوقفت غالبية وسائل النقل العام في باريس، والتابعة لهيئة النقل الذاتية الخاصة بالعاصمة الفرنسية، عن العمل بسبب إضراب واسع هو الأكبر منذ 12 سنة لعمال القطاع المحتجين على مشروع قانون إصلاح معاشات التقاعد.
كما توقفت حركة عشرة خطوط لمترو الأنفاق بالكامل فيما عملت باقي الخطوط جزئيا.
وتشمل الاضطرابات أيضا خدمة الحافلات والترامواي الموجودة بكثافة في باريس وضواحيها القريبة.
وقد دعت لهذا الإضراب عدة نقابات عمالية أبرزها الاتحاد العام للشغل (أكبر النقابات الفرنسية) واتحاد النقابات المستقلة في خطوة تهدف إلى توجيه تحذير حازم للحكومة من أجل العدول عن مشروع إصلاح معاشات التقاعد، وتطالب النقابات في الوقت ذاته بالاحتفاظ بالوضع الخاص الذي يحظى به عمال قطاع النقل.
وخلال الشهر نفسه، أعلنت شركة المرافق الفرنسية “إي دي إف” التي تديرها الحكومة أن ثلث قوتها العاملة نظمت إضرابا، للاحتجاج على خطة لإعادة الهيكلة، ما أدى إلى تراجع توليد الكهرباء في فرنسا بأكثر من 10%.
وقالت الشركة إن نحو 20 ألفا من العاملين في فرنسا انضموا للإضراب، وهي من أعلى نسب المشاركة في أي إضراب بالشركة خلال 8 أعوام.
وتسبب الإضراب في انخفاض توليد الكهرباء بنحو 6 جيجاوات، ما أثر على الإنتاج في عدة محطات للكهرباء تعمل بالمياه والغاز والطاقة النووية.
ولم يؤثر توقف محطات الكهرباء على شبكة الكهرباء أو المنازل على الرغم من أن انخفاض إنتاج الكهرباء يكبد الشركة تكلفة باهظة، وسيتعين عليها تعويض أي عجز من الخارج.
وكشفت بيانات “إي دي إف” والشركة المشغلة لشبكة الكهرباء “آر تي إي” أن نسبة الفقد في توليد الطاقة تجاوزت 8%، خلال الإضراب.
ويحتج العاملون في “إي دي إف” على خطط صاغتها الحكومة الفرنسية لإعادة هيكلة الشركة، وربما تقسيم المجموعة المثقلة بالديون بحيث تنفصل وحدتها لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية عن بقية المجموعة.
وهذا الإضراب أكثر إزعاجا من الإضرابات السابقة، حيث اتحدت أربع نقابات عمالية تمثل غالبية العاملين في الطاقة في فرنسا وأعلنت مساندتها له.
ولم يسبق لتلك النقابات التحرك على نحو جماعي من قبل.
في 5 ديسمبر/كانون الأول، أدى إضراب أطلق عليه “الإضراب الكبير” أكبر إضراب على مستوى البلاد منذ عام 1995، إلى شل الحركة في معظم أنحاء فرنسا، ونزل أكثر من نصف مليون شخص إلى الشوارع احتجاجا على خطط حكومية للإصلاح في أنظمة التقاعد تعهد بها ماكرون.
وأعلنت عدة قطاعات تعليق أنشطتها في مقدمتها السكك الحديدية، ومترو الأنفاق، والمعلمون، والمحامون، والمستشفيات، والطاقة، والقضاء، والشرطة، وعمال النظافة، ومن كل الاتجاهات الأيديولوجية، على رأسهم نشطاء حركة “السترات الصفراء”، وبدعم من حزب التجمع الوطني (اليمين المتطرف).
وأطلق مبادرة الإضراب “الاتحاد العام للعمال في فرنسا، والقوة العاملة الفرنسية، والاتحاد النقابي الوحدوي المعني بالمهن التعليمية”، وانضم إليها العاملون في عدة قطاعات حيوية فرنسية، منها المترو، والقطارات، والحافلات، والمدارس، وجمع القمامة، والمحامون والعاملون في القضاء”.
وجاءت التظاهرات الحاشدة في أنحاء البلاد لتُضاف إلى إضراباتٍ أدّت إلى شلل خدمات النقل وإغلاق المدارس وتعطيل القطارات فائقة السرعة وإلغاء رحلات جوّية.
شاركت معظم نقابات المعلمين لمرحلة التعليم الأساسي البالغ عددهم في فرنسا نحو 900 ألف معلم، في الإضراب، كما انضمت إليها نقابات المدارس الثانوية للاحتجاج على هشاشة نظام التعليم الثانوي على الطلاب.
وفي قطاع الطاقة، شاركت 3 من النقابات التمثيلية الأربع للعاملين بقطاع الطاقة في الإضراب، بينهم 140 ألف عامل كهرباء وغاز.
وفيما يعد قطاع صناعة السيارات القطاع الحيوي في الاقتصاد الفرنسي، دعا اتحاد نقابات العمال، العاملين في شركتي “رينو” و”بيجو” للسيارات إلى المشاركة في الإضراب والتعبئة ضد مشروع قانون المعاشات ومشروع “الاتفاق الثالث” للتنافسية للشركات المصنعة.
في ظل حركة الإضرابات التي يشهدها القطاع الصحي في فرنسا منذ نحو 8 أشهر، لموظفي أقسام الطوارئ في المستشفيات الفرنسية، شاركت نقابات أصحاب المستشفيات في فرنسا في الإضراب العام.
وفيما يتعلق بمشروع القانون المثير للجدل الذي يطلق عليه قانون “ديلوفوا”، فهو مشروع قانون تقدم به وزير فرنسي سابق جون بول ديلوفوا، ويتضمن إصلاح قانون المعاشات التقاعدية، وينص على إنشاء نظام اشتراكي اجتماعي بالنقاط للحلول محل الاشتراكات السنوية، فضلاً عن رفع سن التقاعد الكامل من 62 إلى 64، مع الإبقاء على السن القانونية 62 لكن يحصل المتقاعد على معاش أقل، ويتم تخييره ما بين الانتظار للسن القانوني أو الحصول على معاش غير مكتمل.
ويخشى المضربون من عمال النقل ومراقبي الحركة الجوية والمعلمين وعمال الإطفاء والمحامين وقطاعات أخرى، من أنهم سيضطرون للعمل فترات أطول أو الحصول على معاشات أقل بموجب خطط الإصلاح.
وخرج قرابة 510 آلاف متظاهر، استنادا إلى أرقام الشرطة والسلطات، دون احتساب تظاهرة في باريس قدرت الكونفدرالية العامة للعمل أن 250 ألف شخص شاركوا فيها.
واستمرت الاضطرابات أكثر من ثلاثة أسابيع في اختبارٍ لعزيمة ماكرون على تطبيق أحد وعوده الرئيسية في حملته الانتخابيّة.
وفي 18 ديمسبر/كانون الأول في اليوم الرابع عشر لإضراب بدأ يهدد عطلة عيد الميلاد، أعلن ماكرون، استعداده لـ”تحسين” مشروع إصلاح أنظمة التقاعد، وذلك قبيل محادثات جديدة لرئيس الوزراء إدوارد فيليب مع الشركاء الاجتماعيين.
وأوضحت الرئاسة الفرنسية أن ماكرون “لن يتخلى عن المشروع” لكنه “مستعد لتحسينه من خلال المحادثات مع النقابات”، ملمحة إلى إمكانية تحقيق تقديم قبل عطلة أعياد الميلاد.