فعلها محمود عبّاس

زياد بركات

مؤسفٌ أن تأتي أي خطوات للرئيس الفلسطيني محمود عباس دوماً في الاتجاه المعاكس للمزاج الفلسطيني العام، وقراراته في توقيت يفترض خلافها، ولو على سبيل مراعاة المشاعر، على غير ما يُقدِم عليها الأفراد وتلحقهم الهيئات الاعتبارية والحكومات لأسباب محض عاطفية (جَمعية غالباً) تتعلق بالشخصية الوطنية ورموزها، وهو ما لا يلقي له بالاً الرئيس الفلسطيني، أمس واليوم.

تخرج غزّة من حرب إبادة غير مسبوقة، بدمار يذكّر بالمدن الألمانية واليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، وبعدد شهداء باهظ (أكثر من 37 ألفاً)، وجرحى يتجاوزون المائة ألف، ناهيك عن مفقودين ومنكوبين تقدّر وكالات الأمم المتحدة أنهم يحتاجون عقوداً قبل أن يتعافوا وبيئاتهم الاجتماعية، فلا يرى الرئيس الفلسطيني الذي يقيم في مقر المقاطعة برام الله من ذلك شيئاً، فانشغالاته لا تشمل “تعاطفاً” من أي نوع أو درجة، بل إنه وهو بحكم منصبه يمثّل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة، لم يخاطب جزءاً أصيلاً من شعبه مرة واحدة بينما كان يُباد، ولم تذكر وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، أو حتى اللاتينية، أن عباس فعلها مرة واحدة، فهاتف أسرة مفجوعة في قطاع غزّة، وتعهّد على مسامع من تبقّى من أفرادها ولو على سبيل الكلام المرسل برعايتها.

وكان من مخازي سلطته وعارها أنها قدّمت عبر وسطاء طلباً إلى إسرائيل لتسمح له بزيارة القطاع المنكوب، وكاد السيد محمود الهباش، وهو مستشارُه، يقفز من مقعده من الحماسة وهو يؤكد لقناة العربية أن عبّاس سيفعلها، وسيزور غزّة شاء من شاء وأبى من أبى، وعندما أبت إسرائيل تراجع الهبّاش وعبّاس وأتباعهما عن موجة تطبيل استمرّت نحو أسبوعين، ظن متابعوها أنها تمهّد لدخول الفاتح صلاح الدين بيت المقدس.

وهذا مؤسفٌ، بل مخجل، ولا يبالغ كاتب هذا المقال حين يقول إنه يشعر بالخجل وهو يكتب بهذه اللغة عن عبّاس أو سواه من مسؤولين فلسطينيين، يفترض أن يكونوا قادة لشعبٍ ذبيح ومُخان في هذا العالم، وورثة ثورة مجيدة وقادة كانت إسرائيل ترسل إليهم فرق الاغتيالات عبر الدول، فتقطع مئات الكيلومترات وتعبر الحدود وترشو المسؤولين وتجنّد العملاء لاغتيالهم، بينما يكتفي السيد الرئيس محمود عبّاس بجلوسه في المقاطعة أو منزله مع زوجته وبين أحفاده، ليتابع المقتلة غير المسبوقة في قطاع غزّة عبر شاشة التلفاز، كأن الإبادة تجري في كوكب زحل، وليس في بقعة فلسطينية يفترض أن تشملها ولايته، ولكن على من تتلو مزاميرك يا داود؟!!

يحتاج عبّاس إلى اتّخاذ قرارات كان قد تفاوض عليها العام الماضي، بل منذ عام 2018، لتأهيل سلطته لتُعتمَد كجهة مسؤولة وذات صلة بما يسمّى اليوم التالي للعدوان، ومنها “تنشيط” سلطته، ومحاربة الفساد وإلغاء مخصّصات عائلات الشهداء والأسرى والجرحى، وسوى ذلك من اشتراطات أميركية وبعضها أوروبي، ليضمن الساكن في مقاطعته مقعداً على الطاولة، فلا يتخذ قراراً ذا صبغة عاطفية ورمزية إلا في الوقت الأسوأ في مسيرة شعبه، وهو بتوقيت غزّة لا واشنطن أو تل أبيب: وقت الصمود والتمسّك بالثوابت كي لا تذهب ريح الفلسطينيين في العالم، لكن عبّاس، بدلاً من الاستثمار في صمود شعبه، يهدر الفرصة ويبادر من طرف واحد لتقديم التنازلات، ولمن؟ لرئيس أميركي يقوم بتغيير قواعد اللعبة السياسية كلها، ما يعني أن عبّاس يتحرّك في الوقت الضائع، وضد نفسه قبل شعبه، باتخاذه قراراً بالغ السوء، كان يمكن تحمّل تبعاته لو كان ثمة ثمن كبير دُفع للفلسطينيين، مثل الاعتراف بدولة مستقلة حتى لو على الورق. أما أن يأتي قراره الآن، وعلى سبيل الرهان على تفهّم وتقدير من إدارة ترامب، والضغط بالتالي على نتنياهو فمجانية شائنة ومهينة للرجل (عبّاس) وشعبه مؤيدين أو معارضين، في الضفة الغربية أو قطاع غزّة وجزر سيشل وجوارها.

ولا يقضي مرسوم عبّاس الصادر أخيراً وقف مخصّصات عائلات الشهداء والأسرى والجرحى، بل نقلها إلى مؤسسة أخرى، بما يجعل ملف عائلات الشهداء والأسرى أقرب إلى الحالات الاجتماعية والأسر المتعفّفة، وبشروط قد تتغيّر فتُلغى معها هذه المخصّصات لاحقاً وبالتدريج، وفي هذا إهانة لتاريخ من الدم الذي بذله الفلسطينيون عبر تاريخهم لتحرير بلادهم، وليس تركها لعبّاس أو سواه ليعبث فيها ويهين رموزها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى