فلسطين.. تغريد خارج الزمن!
محمد قواص
شكلت الاتفاقية الإماراتية الإسرائيلية واقعا جديدا مسّ الرتابة التي طبعت المقاربة العربية لمخارج حل قضية فلسطين من خلال المبادرة العربية لعام 2002.
الأمر فجر جدلا واسعا لما للحدث من تأثير مباشر على الستاتيكو الذي تعرفه المنطقة بشأن هذه القضية، ومن تداعيات محتملة على سيناريوهات علاقات إسرائيل بدول المنطقة.
بالمقابل انطلق الرد السياسي الذي ارتأته قيادة السلطة الفلسطينية من قاعدة باتت متقادمة، وفق الحدث الإماراتي، تستند على رهن مستقبل أي علاقة عربية مع إسرائيل بمزاج فلسطيني ينطلق من حسابات فلسطينية. ولئن تعتبر الإمارات أن طبيعة علاقتها بإسرائيل هي شأن ثنائي وقرار سيادي يتخذ بمعزل عن الرؤية الجماعية العربية وخصوصا عن الرؤية الفلسطينية، فإن صاحب القرار الفلسطيني لم يقرأ جيدا هذا التحول وما زال يغرف من بضاعة كاسدة يعود عبقها إلى زمن آخر.
والاعتراف بالزمن هو سر تقدم الأمم. يكفي في هذا الصدد تأمل الفكر والسلوك اللذين سادا بدموية وتخلف قرونا من تاريخ أمم في هذا العالم، ومقارنة ذلك مع طبائع الراهن وقوانينه لدى نفس الأمم والتي أملت قطيعة، أحيانا غير متدرجة، مع السائد بأدواته الفكرية ووسائله البالية.
أخطأ الطرف الفلسطيني بمحاولته التشاطر لفرض وجهة نظر عضو في جامعة الدول العربية على بقية الدول الأعضاء. لم يكن مفاجئا أن يُسقط الإجماع العربي ما من شأنه النيل من قرار سيادي اتخذه عنصر من عناصر هذا الإجماع. وأخطأ الطرف الفلسطيني حين وضع نفسه في مواجهة النظام السياسي العربي بدل أن يكون متفيئا به محميا بعباءته. ويخطئ الفلسطينيون حين يمارسون استعلاء على العرب وفوقية في توزيع شهادات حسن السلوك وفق ما أفاد به صائب عريقات حين دعا أمين عام الجامعة العربية إلى الاستقالة أو حين أنذر بأن الفلسطينيين سيراقبون من سيحضر من العرب حفل التوقيع على الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي.
لا تريد القيادة الفلسطينية أن تقتنع أن فلسطين قضية أساسية في وجدان العرب لكنها لم تعد قضيتهم الأولى. هي ليست أولوية القضايا عند الليبيين واليمنيين والسوريين حيث الحرب تفتك بواقعهم، لكنها ليست أولى القضايا لدى بلدان وشعوب المنطقة حيث الهمّ بات أمنيا اقتصاديا تنمويا معيشيا، وحيث باتت أخطار إيران وتركيا للبعض كبيرة داهمة آنية وأكثر فتكا مما يمثله الخطر الإسرائيلي.
راقب الفلسطينيون بدهشة تساقط دول أفريقيا وبلدان في العالم الثالث لطالما كانت محسوبة على معسكر معاد لإسرائيل متضامن داعم لفلسطين. لم يعترفوا أن عبورهم نحو “أوسلو” أسس لعقيدة “إذا كان رب البيت بالدف ضاربا”، والتي شرّعت الباب لنسج علاقات هذه الدول مع إسرائيل. لم تنتبه القيادة الفلسطينية بأن أسطورة “يا وحدنا” التي خطّها محمود درويش هي دفق شعري رائع، إلا أنها، إضافة لعدم حقيقتها في واقع أن الفلسطينيين لم يكونوا لوحدهم، باتت ديدن العقيدة السياسية الفلسطينية عامة من حيث التماس مع العالم في الكر والفر دون مشاركة العرب وتطوير الاستقواء بوجودهم.
قد يجوز الجدل حول وجاهة قراري الإمارات والبحرين، لكن هل ممكن أن تجيبنا قيادة السلطة الفلسطينية متى جال رئيسها على عواصم العرب، ومتى انتشر مبعوثوه يدقون الأبواب من المحيط إلى الخليج؟ هل ممكن أن تجيبنا القيادة الفلسطينية لماذا ينشط بعض سفرائها، وفق همّة ذاتية شخصية، لدى بعض العواصم الغربية يلتقون بأحزابها ونقاباتها وجمعياتها وإعلامها.. فيما لا نشاط يذكر لسفرائها في عواصم العرب؟ ثم إذا كان من جفاء بين رام الله وبعض الدول العربية، فلماذا هذا الجفاء ولماذا البلادة المزمنة في فك العقد وتمتين صلات فلسطين بالعرب. وأخيراً هل ممكن للقيادة الفلسطينية أن تخبرنا كيف التعامل مع الواقع الجديد الذي يفرضه حدث الإمارات والبحرين وربما بلدان لاحقة غير إلقاء محاضرات في الوطنية وإصدار شهادات التخوين وسحب سفراء السلطة؟
لم تخرج الضفة الغربية غاضبة حين تعرض قطاع غزة لحروب متعددة. في كل مرة كان الرئيس محمود عباس يذهب لإلقاء خطبته السنوية من على منبر الأمم المتحدة في نيويورك كانت أجهزة السلطة تسيّر مظاهرات تحمل صور أبو مازن. صحيح أن هذه المظاهرات مصطنعة لكن لم ينظم مثيل لها استنكارا لما كان يتعرض له الفلسطينيون في غزة. بالمقابل خرجت المظاهرات تلو المظاهرات، ونظم الإضراب تلو الإضراب ضد قانون الضمان الاجتماعي وهذا من حق الناس وواجبهم في الدفاع عن مصالحها. فإذا كان أمر الموقف من مسألة فلسطينية بات في نظر الفلسطينيين وجهة نظر، فحري أن تعترف قيادة السلطة أن من حق غير الفلسطينيين أن يكون لهم وجهة نظرهم.
يكشف الضجيج الذي أثارته زيارة إسماعيل هنية إلى لبنان الانزلاق الذي وصل إليه الأداء الفلسطيني في عيون العرب. لم يهتم هنية ومن مشى في عراضاته العضلية في شوارع عين الحلوة، أن لبنان، كما العالم العربي، قد تغير. لم يقرأ اللبنانيون هذا الصخب الذي أثاره هنية إلا تلويحا بعلم فلسطيني لصالح أجندة إيران وحزبها في لبنان أو تمرينا فلسطينيا لصالح تركيا وجهودها التي بدأت تظهر في لبنان، أو ردا ضمنيا تقوم به طهران وأنقرة على الوهج الدولي الذي تقوم به فرنسا في هذا البلد. وأيا كانت تفسيرات الحدث وتبريراته، فإنه يمثل واجهة من واجهات فلسطين التي تعمل لصالح أمر عمليات لا شأن للعرب به.
يقرأ العرب جيداً واقعهم وواقع العالم وتحولاته من حولهم ويقرأون شلل القيادة الفلسطينية على إدراك المشهد الدولي الجديد. بدا أن ما حصل في اجتماع جامعة الدول العربية الأخير يؤكد خطوط الممكن والمستحيل في التعامل مع المسألة الفلسطينية ويفضح عدم قدرة الدبلوماسية الفلسطينية على التعامل برشاقة مع الثابت والمتحول في مواقف الدول. وما يستنتج من الإعلان عن اتفاق بحريني إسرائيلي للسلام أن العرب لن يحرجهم الثابت المتهالك ولن يرتهنوا لمزاج رام الله وغزة المتحول.
الأوبزرفر العربي