في العراق خسر فاسدون وربح فاسدون
فاروق يوسف
التغيير والإصلاح مزحتان يتم تداولهما في العراق منذ سنوات. غالبا ما كانت الطبقة السياسية وهي التي لا تقبل مزاحا سباقة في الحديث عن الإصلاح والتنديد في الوقت نفسه بالفساد كما لو أنه من صنع كائنات خفية قادمة من كوكب بعيد ما أن تضع أيديها على الذهب حتى يتحول إلى تراب وما أن تلمس العباد حتى يتحولوا إلى رماد.
فالفساد في العراق لا يشبه أي فساد في أي مكان آخر من العالم. إنه فساد “نووي” لا يبقي ولا يذر. كما أنه فساد قابل للعدوى والانتشار بسرعة قياسية غير معهودة وهو ما أدى إلى أن تكون هناك بيئة صالحة لتطبيعه. العراق هو تلك البيئة. لهذا يمكن القول إن الفاسدين إذا اختفوا من العراق لا يعني ذلك أن الفساد سيختفي.
فرح بعض العراقيين شماتة أن هناك فاسدين خسروا في الانتخابات الأخيرة ولكنهم لم يلتفتوا إلى حقيقة أن الرابحين هم أيضا فاسدون في معظمهم. خسر فاسدون وربح فاسدون. ذلك يعني أن الفساد انتصر مرة أخرى. هل كان هناك مَن يتوقع هزيمته؟ ذلك سؤال وضعه الشعب العراقي خلف ظهره. لذلك كان حجم المقاطعة كبيرا. مَن لم يدل بصوته لم يخسر أي فرصة ممكنة بقدر ما ربح صلحه الداخلي وشعوره بأنه احتفظ بشيء من كرامته بعيدا عن التلوث والتزوير.
أما أن يُقال إن الانتخابات كانت نزيهة ولم يجر تزويرها فهو كلام صحيح لو تعلق الأمر بصناديق الاقتراع ولو أخذنا الأمر مجردا من حقيقتي المال والسلاح اللتين سبقتا الانتخابات ومهدتا لها. فما جرى يوم الاقتراع ما هو إلا انعكاس للحملات الانتخابية التي أنفقت فيها أموال هائلة، هي في الحقيقة أموال منهوبة من الشعب العراقي فليس هناك من بين المرشحين مَن يمكنه أن يدعي أنه قد حصل على تلك الأموال من خلال أعماله الحرة في عالم البيزنس. كل أفراد الطبقة السياسية في العراق هم من الحفاة السابقين الذين أثروا بعد الاحتلال الأميركي.
إذاً الفاسدون أقاموا أثناء حملاتهم الولائم ووزعوا الهبات العينية والإكراميات المالية في إطار شروط صارمة في مقدمتها القسم على القرآن على جمهورهم من ماله. مال ذلك الجمهور المنكوب بنظام سياسي يستند في الجزء الأهم من وجوده إلى دعم دولي وإقليمي يشعر العراقيون إزاءه بأنهم ضحايا مؤامرة يُراد من خلالها تثبيت النظام بغض النظر عن الفساد وحقوق الإنسان والطائفية والاحتجاجات الشعبية والسياسات القائمة على التمييز وغياب مبدأ المواطنة وانحسار الرقابة الحكومية.
لا يملك العراقيون سوى أن يتعلقوا بخيوط أمل يعرفون أنه كاذب. غير أنهم أصبحوا بعد احتجاجات تشرين عام 2019 أكثر واقعية مما كانوا من قبل. صحيح أنهم استطاعوا إسقاط حكومة عادل عبدالمهدي التي تمت التضحية بها من أجل الحفاظ على النظام، غير أنهم صاروا على يقين من أن التغيير صارت طريقه طويلة أما الإصلاح بمعنى أن ينخفض مستوى الفساد فإن الأمل فيه ضعيف إلى درجة اليأس.
فبعد أن تمت التغطية على جرائم القتل التي ارتكبت في حق شباب الاحتجاجات وصار الإفلات من العقاب واحدا من أهم عناوين بقاء النظام الذي لا يبدو مكترثا بمطالبات ذوي القتلى الذي ينادون بالكشف عن الحقيقة وهي حقيقة قررت العدالة الدولية أن تغض النظر عنها لا لشيء إلا لأن الولايات المتحدة مستعينة بإيران قد أغلقت الستار على الاحتجاجات بعد أن استطاعت حكومة مصطفى الكاظمي أن تقيم انتخابات، طالب بها المحتجون وكانوا يتوقعون أنهم سيتمكنون من خلالها من إسقاط النظام أو على الأقل الحد من توجهاته الطائفية التي هي في حقيقتها عنوان تقاسم للغنائم بين الأحزاب.
أسوأ ما نتج عن تلك الانتخابات أن تيار نوري المالكي قد حصل على 37 مقعدا في مجلس النواب المقبل. تلك نبوءة سيئة. ولكنها ليست كذلك قياسا بتاريخ النظام الذي لم يتعامل مع الفساد باعتباره جريمة. لقد اعتبر المحتجون المالكي هو الأساس لانهيار العراق اقتصادا ومجتمعا بعد أن كان قد احتل مكانة بارزة بين الدول الفاشلة. وكما يبدو فإن سياسة نوري المالكي في سياق التحزب الطائفي قد أنهت مسألة العودة القانونية إلى ما شهده عهده من انهيارات فظيعة كان سقوط الموصل تحت احتلال داعش أهمها. لذلك فإن عودته إلى المشهد السياسي هي تتويج للفساد.
ربح الفاسدون وفي مقدمتهم نوري المالكي غير أن الرابحين الآخرين لا يقلون عنه فسادا.