قراءة أولية في نتائج الانتخابات التركية
انتهت، الأحد، الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة التركية، وهي الانتخابات التي رأى كثيرون داخل تركيا وخارجها أنها ربما تعد الأهم في العالم خلال العام الجاري والأهم في تركيا خلال قرن من الزمان هو عمر الدولة التركية الحديثة.
هذه الانتخابات التي قد تؤسس لعصر ما بعد أردوغان الذي استمر 20 عاما وترك أثره على كل مفاصل الحياة داخل تركيا وعلى علاقاتها الخارجية، وما قد يتبع ذلك من تغييرات هيكلية ستطال الداخل التركي بقدر ما ستؤثر في دوائر حركة تركيا إقليميا ودوليا وتوجهات سياستها الخارجية المتقاطعة مع كثير من الملفات الشائكة والقضايا الدولية الساخنة، خاصة في ظل نتائج استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات والتي كانت تذهب جلها لصالح مرشح المعارضة كمال كيليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري ما جعل آمال التغيير المنشود من قبل البعض داخليا وخارجيا تبدو أقرب من أي وقت مضى.
نتائج الانتخابات جاءت لتبقي على آمال وأحلام كلا الفريقين، وكلاهما يمكنه تسويق نتائج الانتخابات الرئاسية على أنها انتصار له في انتظار الكلمة الأخيرة للشعب التركي في الـ28 من مايو/أيار الجاري، فمرشح “تحالف الشعب” الحاكم رجب طيب أردوغان حل أولا في هذه الانتخابات بحصوله على 49.51% من مجمل الأصوات وفقا للنتائج النهائية المعلنة من قبل لجنة الانتخابات، وكان قاب قوسين أو أدنى من تأمين الفوز من الجولة الأولى والذي يستلزم الحصول على نسبة 50%+1، وأربك بذلك استطلاعات الرأي التي لم يذهب أيا منها إلى ترجيح تفوقه على منافسه، بهذه النتيجة أيضا استطاع أردوغان تحييد الغضب الشعبي على سياسته الاقتصادية التي اعتبرت على نطاق واسع سببا في الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها بلاده منذ سنوات، كذلك لم يترجم الغضب الشعبي على تعاطي حكومته مع آثار الزلزال المدمر الذي وقع في الـ6 من فبراير/شباط الماضي وأودى بحياة ما لا يقل عن 50 ألف شخص في صناديق الاقتراع، بعد أن حل أردوغان أولا في معظم المحافظات التي تأثرت بشدة في الزلزال، وهو ما يمكن أن يترجمه التحالف الحاكم انتصارا كبيرا ونجاحا كبيرا لمرشحه وقدرته الشخصية على الحشد والتعبئة حتى في ظل أجواء غاضبة وغير مواتية
في المقابل يسوق معسكر كمال كيليجدار أوغلو، نتائج هذه الجولة أيضا على أنها انتصارا له وانحيازا من الناخب التركي لوعوده الانتخابية القائمة على تغيير “الوجه الاستبدادي” للبلاد وإنهاء الأزمة الاقتصادية.
وعلى الرغم من حلوله ثانيا بحصوله على 44.88% من أصوات الناخبين، إلا أنها المرة الأولى في تاريخ تركيا التي تدفع فيها المعارضة الانتخابات الرئاسية إلى جولة إعادة، كما أنها أكثر مناسبة انتخابية خلال 20 عاما كانت فيها هزيمة أردوغان قريبة وممكنة وفوز منافسه محتملا وقائما.
أي أنها أنهت حالة اليقين والفوز المضمون التي دخل بها أردوغان كل المناسبات الانتخابية السابقة بمواقعها المحتملة وما يعكسه ذلك من دلالات رمزية، كما يمكن لأوغلو وأنصاره التباهي بالفوز في عاصمتي البلاد الاقتصادية والسياسية، إسطنبول وأنقرة، لا سيما الأولى التي بنى من خلالها أردوغان مجده السياسي، ورمزية ذلك التي لا تخفى على أحد.
كذلك التباهي بالفوز بمعظم أصوات الأكراد في سابقة تاريخية لم تحدث من قبل أن يصوت الأكراد بهذه الكثافة لمرشح حزب الشعب الجمهوري، وأخيرا تستطيع المعارضة الادعاء بامتلاك فرصتها وحظوظها الكاملة في فوز مرشحها بجولة الإعادة حتى وإن كانت حظوظ أردوغان تبدو أقرب حسابيا، لكن تبدو كل الاحتمالات ممكنة لا سيما أن الأمر قد يعتمد على مدى قدرة كلا الطرفين على جذب الطرف الثالث وكتلته الانتخابية في جولة الإعادة، وأعني هنا سنان أوغان الذي حل ثالثا بنحو 5% من أصوات الناخبين، وهي نسبة كفيلة بترجيح كفة أي من الطرفين المتنافسين في حال نجاحه في تأمينها، وهنا أصبح السؤال الأكثر إلحاحا وأهمية وسيظل كذلك حتى موعد جولة الإعادة هو: من سيدعم أوغان في الجولة الحاسمة؟
أوغان، الوجه الجديد نسبيا في السياسة التركية والفائز الأبرز في هذه الجولة، كان كل ما يتنماه من خوض هذه الانتخابات هو أن تذهب إلى جولة إعادة يمكن أن يصبح معها “صانعا للرؤساء”، وهو ما تحقق بالفعل، لذا بمجرد إعلان النتائج بدأ يدرك أهميته في ترجيح كفة الفائز، وأصبح يرسل رسائل لكلا المعسكرين يمكن أن يفسرها كلاهما على أنها في صالحه، فهو من جهة يقول إن “مرشح المعارضة كيليجدار أوغلو لم ينجح في إقناع الشعب”، لكنه في المقابل يقول إنه يمكن أن يدعمه في جولة الإعادة ما لم يتم تقديم تنازلات للحزب المؤيد للأكراد، إذن قد تلعب أصوات ناخبي تحالف “آتا” بقيادة أوغان دورا حاسما في جولة الإعادة وتحديد هوية من سيحكم تركيا خلال السنوات الخمس المقبلة لكن من الصعب التنبؤ لمن ستذهب، لأن هذا سيعتمد بالتأكيد على المفاوضات التي سيجريها أوغان مع المرشحين المتنافسين، وعلى موقفهما من نقطتين رئيسيتين هما اللاجئين والعلاقة مع الأحزاب الداعمة للأكراد، وأخيرا على المكاسب السياسية التي يستطيع أي من الطرفين تأمينها له ولحركته السياسية ومستقبله السياسي حال الحصول على دعمه، لذا ستكون العناوين الرئيسية للسباق الانتخابي خلال الأسبوعين المتبقيين على جولة الإعادة هي تلك المتعلقة بالمفاوضات التي يجريها رئيس حزب صغير مع تحالف المعارضة الرئيسي والتحالف الحاكم، وسيكون تصريح مقتضب من أوغان بدعمه أحد الطرفين المتنافسين خبرا عاجلا ستبرزه كل سائل الإعلام التركية والدولية التي كان شاغلها الأساسي خلال اليومين الماضيين هو الانتخابات التركية.