قرار “العدل الدولية” تاريخي ولكن ليس بامتياز
إبراهيم فريحات
أقرّت محكمة العدل الدولية في القضية التي قدّمتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزّة، عدّة إجراءات، منها إلزام إسرائيل باتخاذ إجراءاتٍ لحماية المدنيين، ومنع التحريض على الإبادة الجماعية، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، ومنع إتلاف الأدلة، وإعطاء إسرائيل مدة شهر لاتخاذ الإجراءت اللازمة، وتقديم تقرير بهذا الخصوص، لكنّها لم تدعُ إسرائيل صراحة إلى وقف إطلاق النار فوراً.
قرار محكمة العدل الدولية بخصوص الإبادة الجماعية في غزّة تاريخي بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنّ مسألتين مهمّتين منعتاه من الحصول على درجة الامتياز: عدم نفي ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الدولية، حيث قضت المحكمة نفسها عام 2022 على روسيا بوقف إطلاق النار ضد أوكرانيا، رغم أن عدد الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا في الثلاثة أشهر الأولى يساوي عشرة أضعاف عدد الأطفال الأوكرانيين الذين قُتلوا في سنتين. وأن القرار تعاطى مع الضغوط السياسية، فلم يدعُ إلى وقف إطلاق النار فوراً، ليتحاشى مواجهةً مع مجلس الأمن والولايات المتحدة التي كانت ستتخذ “فيتو” بحق التنفيذ، فيصبح القرار معطّلاً بسبب عدم قابليته للتنفيذ. فالقرار أعطى الجانب السياسي نافذةً لتقييد إجراءات الحرب الإسرائيلية بوضع محدّدات لها من دون الوقف الفوري لها، وهو ما تطالب به الولايات المتحدة. ربما خشيت المحكمة من أنّ عدم تنفيذ الوقف الفوري لقرارها بفعل الفيتو الأميركي، يعود لاعتباره علامة ضعف على دورها في تطبيق العدالة الدولة، فخضعت، بطريقة غير مباشرة، للفيتو الأميركي، فأجّلت المواجهة من دون نفيها مستقبلاً، على اعتبار أن المحكمة ستحدّد لاحقاً إن كانت ما تمارسه إسرائيل إبادة جماعية فعلاً.
مع ذلك، يبقى القرار تاريخياً ومهمّاً لمجموعة من الاعتبارات. فقد اعترف القرار صراحةً بأن خطر الإبادة الجماعية قائم، وأن الفلسطينيين في غزّة تنطبق عليهم شروط الحماية كمجموعة عِرقية، وهذا يؤسّس ربما لإدانة إسرائيل في القرارات اللاحقة التي ستّتخذها المحكمة نفسها بشأن طبيعة الإجراءات الحربية التي اتّخذتها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين في غزّة. كذلك، رغم أن القرار لا يدعو صراحة إلى وقف إطلاق النار، إلا أن تنفيذه صعب من دون وقف إطلاق نار على نطاق واسع، وليس كلياً، فهو يقيّد، إلى درجة كبيرة، الإجراءات الإسرائيلية، ويربك استراتيجيتها الحربية.
القرار تاريخي، لأنه لأول مرة تُحضَر إسرائيل أمام العدالة الدولية، وتُنسَف سياسة “حصانة إسرائيل” ضد العدالة الدولية التي منحها الغرب لها تاريخياً. هو تاريخي، لأنه يُحضر إسرائيل أمام المحكمة بتهمة الإبادة الجماعية التي تُحاكم بها أكثر المجموعات المسلّحة بربرية ووحشية بالتاريخ الإنساني، فحتى لو لم تُدَن لاحقاً، فإن القرار يمثل انهياراً فعلياً لـ”الرواية الأخلاقية” و”خطاب الضحية” التي تبتزّ بها إسرائيل العالم منذ عقود. القرار عارٌ سيلحق بإسرائيل إلى الأبد، ولا يمكنها الخلاص منه، بغضّ النظر عن الإجراءات التي ستتخذها إسرائيل لاحقاً. ومما يفاقم حالة انهيار “الرواية الأخلاقية” الإسرائيلية، تصويت 15 قاضياً مقابل اثنين من زملائهم على أنّ خطر الإبادة الجماعية قائم، وأنّ من الممكن أن يكون هناك فعلاً إبادة جماعية. لا توجد حالة انقسام كما يحدُث في مجلس الامن، ولكنْ هناك شبه إجماع على إمكانية حدوث الإبادة الجماعية.
إحدى الركائز الأساسية في القرار إقرار مبدأ المساءلة والمتابعة، فطالب إسرائيل بتقديم تقرير بشأن الإجراءات التي ستتخذها خلال شهر من تاريخه. وهذا يعني أنها إن لم تلتزم، ستُصبح مخالفة لقرارات المحكمة الدولية، ما يفتح المجال أمام اتّخاذ إجراءاتٍ إضافية بحقها. عدم تقديم تقرير مفصّل بشأن الإجراءات التي ستتخذها لحماية المدنيين سيشكّل دليلاً مادياً على عدم التزام إسرائيل العدالة الدولية، بخلاف ما كانت تعتبرها “اتهامات” بحقّها في هذا المجال.
إقرار المحكمة بقيام مسؤولين إسرائيليين بالتحريض على الإبادة الجماعية، واستشهادها بتصريحات وزير الدفاع غالانت عن قطع المياه والغذاء عن الغزّيين، ورئيس إسرائيل هيرتزوغ عن مسؤولية جميع الفلسطينيين عن أحداث 7 أكتوبر، يؤسّس لرفع قضايا في محكمة الجنايات الدولية بحقهما شخصياً، وإحضارهما إلى المحكمة. فالقرار، بلغة أخرى، يفتح المجال أمام عدد هائل من الإجراءات الأخرى مستقبلاً، التي يمكن اتخاذها بحقّ إسرائيل، دولةً وقياداتٍ وأشخاصاً.
من أهمّ ما جاء به القرار، أنّ من كان يُحاكم بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية اليوم ليس فقط إسرائيل، بل أيضاً الدول الغربية الداعمة لها، وليس فقط المتواطئة معها، بل الشريكة لها من خلال الدعم العسكري والمادي والدبلوماسي الذي تقدّمه لحمايتها. يمثل القرار صفعة شديدة لنفاق الغرب وازدواجيته في المعاير الإنسانية التي يعمل بها، حيث ستصبح هذه الدول شريكة في الإبادة الجماعية على أساس قانوني إذا استمرّت بدعمها المفضوح واللامحدود. سيؤدّي القرار إلى إرباك كبير في حسابات هذه الدول، وفي مقدّمتها ألمانيا المليء تاريخها بإبادات جماعية ارتكبتها في ناميبيا وفي الحرب العالمية الثانية، وعليها أن تختار إن كانت ستتورّط رسمياً في إبادة جماعية جديدة. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أعطى القرار لها نفوذاً إضافياً لتطبيق ما كانت تطالب به إسرائيل، أخيراً، بتقليص الحرب وحماية المدنيين، فوضعها في موقفٍ يتطلب منها أن تقرن “نصحها” إسرائيل بالانتقال إلى المستوى التنفيذي باتخاذ إجراءات مادّية ملموسة ضد حكومة نتنياهو. بمعنى، أن القرار قد عرّى حكومة بايدن بعدم الاختباء وراء الكلمات والانتقال إلى مستوى التطبيق.
أخيراً، النصر الحقيقي في هذه القضية هو لجنوب أفريقيا التي هاجم الغرب وإسرائيل توجّهها إلى محكمة العدل الدولية. فاعتراف المحكمة اليوم بـ”شبهة الإبادة الجماعية” يضعها على الجانب الصحيح في التاريخ، بأنها كانت الدولة الأولى والأجرأ بالعالم التي “تقرع جدران الخزّان”، وتستعد لدفع ثمن الغضب الغربي، في حين أن دولاً كثيرة تلتزم الصمت في أحسن حالاتها، الأمر الذي يذكّر بعبارة مارتن لوثر كينغ: “في النهاية لن نتذكّر كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا”. من حقّ جنوب أفريقيا أن تفخر بأنها بقيت وفية لتراثها بمقاومة الظلم والأبارتهايد والوقوف إلى جانب العدالة التي تنكّر لها كثيرون.