لا عودة في تونس إلى الوراء، لكن إلى أين الاتجاه
الحبيب الأسود
عندما يؤكد الرئيس التونسي قيس سعيّد أن لا عودة في تونس إلى الوراء، فذلك يعني أنه لا عودة لما قبل الخامس والعشرين من يوليو، ولاسيما في ما يتعلق بالنظام السياسي وصلاحيات البرلمان وملامح الحياة السياسية التي كانت قائمة، لا تراجع عن حل الحكومة التي أصبحت جزءا من الماضي، ولا تراجع عن تعليق نشاط البرلمان الذي انتهى غير مأسوف عليه، والرئيس سيحافظ بذلك على كافة السلطات التنفيذية بين يديه، وأي حكومة جديدة ستتشكل ستمارس وظيفتها على أن رئيسها الفعلي هو رئيس الجمهورية، بمعنى أن المرحلة الجديدة ستدار وفق طبيعة نظام رئاسي.
وعندما يعلن الرئيس سعيّد أنه سيعيد الأمانة إلى الشعب صاحب السيادة، فهو يشير بكل وضوح إلى أنه سيعود إلى صناديق الاقتراع، سواء من خلال استفتاء عام على دستور جديد وعلى نوعية النظام السياسي الذي سيتم اعتماده بعد فشل النظام البرلماني المعدّل، أو من خلال انتخاب برلمان جديد، وربما كذلك الدفع نحو انتخابات بلدية مبكرة، دون استبعاد أن يدعو إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها يدعم بها مركزه على أعلى هرم السلطة، وهو الذي يحظى بدعم شعبي جارف من قبل من يجدون في مواقفه اليقينية الثابتة مصدرا لعودة التفاؤل والأمل.
جميع المؤشرات تؤكد على أمر مهم، وهو أن الرئيس سعيّد يتحرك في اتجاه تنفيذ مشروع سياسي خاص به، وهو مشروع يصطدم بالأحزاب ويرفض السياقات السابقة، وينبني على فكرة الزعامة المطلقة القادرة على تنفيذ خطتها دون عراقيل من أي طرف، وهي زعامة تستشف قوتها وشرعيتها من الشعب الذي سيعطيه سعيّد مجالا للتعبير عن نفسه دون وساطة الأحزاب، وذلك عبر تشكيل لوائح ستتشكل في مرحلة أولى من أنصاره المنتشرين في مختلف المناطق للفوز بأغلب مقاعد البرلمان القادم، ليتولوا في مرحلة ثانية التشريع لنظام سياسي جديد أقرب إلى الديمقراطية المباشرة، أو شبه المباشرة كما هو الحال في سويسرا مثلا، ينطلق من مبدأ وحدة السيادة الشعبية وعدم قابليتها للتجزئة، لا في حقيقتها فقط بل في ممارستها أيضا، ليعبّر عن الإرادة العامة.
يبدو واضحا أن الرئيس سعيّد يتزعم منظومة فكرية ترى أن الديمقراطية التقليدية المبنية على دور الأحزاب قد فشلت أو اهترأت فبات العزوف عن الانتخابات سمة العصر، وتحولت البرلمانات والحكومات المنبثقة عنها إلى بؤر للفساد والعبث بالمال العام والتنكر للوعود الانتخابية. ظاهرة السياحة الحزبية، أو تغيير الانتماءات والولاءات والتبعيات الحزبية داخل مجلس نواب الشعب، وتفاجؤ الناخب بأن من انتخبهم ضمن لوائح معينة تخلوا عنها، ودخلوا في مزادات للبيع والشراء بما يخدم المصالح الشخصية لبعض النواب، يعطيان سعيّد آليات مقنعة للشارع بأن لا فائدة ترجى من إبقاء الوضع على ما كان عليه قبل الخامس والعشرين من يوليو.
للوصول إلى ذلك، سيكون على الرئيس التونسي تعليق العمل بالدستور. لا يمكن التحرك في أي اتجاه لتغيير النظام أو تشكيل حكومة جديدة أو استفتاء الشعب والدستور الحالي قائم، المادة 80 ذاتها تقيد صلاحيات التدابير الاستثنائية، وقد تجاوزها الرئيس سعيّد فعلا، وما قام به هو قفز على الدستور يحتاج إلى خطوة أخرى تعلّق العمل به نهائيا، سواء لإدخال تعديلات جوهرية عليه أو لكتابة دستور جديد. بالإبقاء على الدستور الذي يكرس النظام البرلماني المعدل ستحتاج أية حكومة جديدة إلى شرعية الثقة البرلمانية، ولن يستطيع الرئيس الدعوة إلى استفتاء، ولا إصدار قانون انتخابي جديد. حتى التدابير الاستثنائية المعتمدة إلى حد الآن لا يمكن أن تستند إلى أية شرعية إذا لم يتم تعليق العمل بالدستور.
الوضع لن يكون يسيرا، يتمتع الرئيس سعيّد بمساندة شعبية كبيرة، لكنها مساندة مشروطة، فالتونسيون صدّقوه عندما تحدث عن مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين، وعندما قال إن تونس دولة ثرية ويمكن أن تكتفي بإمكانياتها، وهم ينتظرون منه معجزات تغيّر حياتهم نحو الأفضل. ينتظرون التوزيع العادل للثروة واستعادة الأموال المنهوبة والدفع بناهبيها إلى المحاكم. ينتظرون توفير الخدمات وتطوير الموجود منها وتخفيض الأسعار وتشغيل الشباب العاطل. وهناك من يعتقدون أنه يملك عصا موسى لتحقيق كل ذلك، الجموع من عامة الشعب تصدق الرئيس عندما يتكلم حاليا ولكنها بالمقابل تراقب قدرته على تحويل كلماته إلى أفعال، وتلك الجموع لا تصبر طويلا على الحاكم، لاسيما إذا أعطاها شحنة كبيرة من الوعود الوردية.
يدرك الرئيس أن تونس دولة ذات رمزية سياسية وثقافية واستراتيجية خاصة في منطقتها، وخاصة بالنسبة إلى الغرب الأميركي والأوروبي، وهي دولة تأسست على ثوابت الاعتدال واحترام التوازنات وعدم الدخول في أي صدامات مع الآخر حيثما كان. تونس لا يمكن أن تكون دولة عقائدية تحت ستار حديدي، ونحن الآن في العام 2021 ولسنا في الستينات أو السبعينات من القرن العشرين، وإلى حد الآن هناك تفهّم للتدابير التي اتخذها الرئيس في الخامس والعشرين من يوليو، ولكن لا يعني ذلك أنه سيستطيع تغيير الواقع برمته، ولا يمكنه أن يعلن الحرب على الجميع سواء برسم الثورة على منظومة 2011 أو برسم الثورة على ما قبلها، في لحظة ما قد يتجند الجميع ويتوحدون ضد مشروعه.
يستطيع الرئيس سعيّد تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي، ولكن على أن يكون ذلك في وجود برلمان جديد قادر على مراقبة السلطات. يمكن للرئيس أن يدفع بأنصاره لتشكيل قائمات انتخابات تفوز بأغلبية المقاعد، ولكن لا يعني ذلك الحرب على الأحزاب كما يحدث مع الحزب الدستوري الحر حاليا. لا يمكن للرئيس أن يعود إلى النظام الرئاسي بنزعة التشفي ممن اعتمدوه قبله، لا يمكن أن يحصّن الدولة بموقف العداء للدولة الوطنية.
من يتجول في أرياف وقرى ومدن تونس، يلاحظ أن أغلب التونسيين يدعمون خطوات ومواقف الرئيس سعيد لسببين: حديثه عن محاربه الفساد، وتعليقه لعمل البرلمان بما أبعد حركة النهضة عن السلطة، وهم ينتظرون منه المزيد، ولكن في اتجاه العمل على إنصاف الفقراء والمحرومين وتحقيق الرفاه لهم. وسيكونون معه في أية خيارات قادمة على أن تكون مدروسة وعقلانية ومتصلة بمفهوم الدولة لا بالشعارات الثورية التي لن تحقق غير التصعيد في اتجاه فوضى الوعود والتطلعات من خارج منطلق الواقع والإمكانيات.