لبنان وهذه الحرب
معن البياري
لنوبات الاشتباك المتصاعدة، والصعبة، والمكلفة، بين دولة الاحتلال وحزب الله في الجنوب اللبناني وفي شمال فلسطين المحتلة، مجراها الخاصّ الذي لا صلة له بما تسمّى جهود التهدئة التي تباشرها الولايات المتحدة وفرنسا (وغيرهما)، لتجنّب حربٍ أوسع، فللمواجهات والضربات المتبادلة، وكذا الشهيّة المجنونة للحرب لدى صنّاع القراريْن، العسكري والسياسي، في إسرائيل، منطقٌ آخر لا يكترث بالقلق الذي يحتدم في الداخل اللبناني نفسه، الرسمي الحكومي والشعبي الأهلي، ولا بالسعي الملحوظ، مع إيران وغيرها، من أجل ألا تتدحرج الحرب اليومية، المنضبطة أحيانا وغير المنضبطة أحيانا أكثر، إلى ما يتجاوز مناطقَها، فلا تُرمى بيروت، مثلا، بالقذائف والصواريخ الإسرائيلية، ولا يشتدّ استهداف حزب الله حيفا وما بعد حيفا. وإذا كان اجتماع الحكومة اللبنانية أمس، برئاسة رئيسها (المكلف بتصريف الأعمال على ما نتذكّر)، نجيب ميقاتي، قد أتى على “خطّة طوارئ ومساعدات وإغاثة، في حال توسّع الاعتداءات من العدو الإسرائيلي”، على ما أخبر “العربي الجديد” وزيرُ البيئة اللبنانية ورئيس لجنة الطوارئ الوطنية، ناصر ياسين، فذلك يعني، من بين كثيرٍ يعنيه، أن الحكومة اللبنانية التي تواصل “اتّصالاتها الدبلوماسية”، من دون توقّف، من أجل تطويق التصعيد الذي شهدته الجبهة الساخنة صباح أمس، لا تستبعد جولاتٍ من القتال أشدّ، وحربا أعرض، بل لعلّها على درايةٍ بأن هذا الاحتمال هو الأرجح، وهي العاجزة عن إحداث أي تأثيرٍ في ذلك المجرى الخاصّ لنوبات القتال بين إسرائيل وحزب الله منذ نحو عشرة شهور.
إنها محنة لبنان العتيدة، البعيدة والعميقة، أن الدولة فيه لم تكن يوماً صاحبة قرار الحرب (وقرار السلم؟)، وغير ذات صلة به، ومُستغنى عنها في خصوصه. وكلامٌ تقليديٌّ كهذا لا يضيف إلى تفاصيل الوقائع الميدانية والعسكرية شيئاً، وإنما يُشار إليه هنا للانصراف، تماماً، إلى حسابات الفاعلين المتحاربين، ورهاناتهم، بل وأيضاً إلى التباين الكبير بين الذي يُشهره حزب الله من نجاحاتٍ في استهدافاته مواقع إسرائيلية ذات حساسية، والذي تعلنه إسرائيل عن قضائها المبرم على إمكانات عسكرية وصاروخية كبرى لدى حزب الله، في ضرباتٍ “استباقية” تقرّرت بناء على معطياتٍ استخبارية، ليس فقط لإضعاف الحزب، وإنما أيضا للحؤول دون أن يُنجز “ردّه” الانتقامي على اغتيال القيادي البارز فيه فؤاد شكر. وقد بدا لكل صاحب عيْن، منذ شهور، أن خسارات حزب الله، من عناصره وقيادييه الميدانيين، ومن حاضنته، كبيرة، بالنظر إلى استشهاد أزيد من خمسمائة في الاعتداءات الإسرائيلية، وبينهم قدراتٌ وكفاءاتٌ قتالية، عدا عن خسارات لبنان نفسه في العمران والبنينان وفي الاقتصاد والزراعة وغيرهما، الأمر الذي يجدُر الاكتراث به، وعدم إغماض النظر إليه، عند التغنّي بنزوح أعداد كبيرة من الإسرائيليين في الشمال، وهرولة من هرول منهم إلى الملاجئ، وبخساراتٍ اقتصادية مؤكّدة، وبغير ذلك من “إنجازاتٍ”، يجوز لحزب الله أن يعتدّ بها واحدةً من آثار عملياته العسكرية ضد العدو الذي يحاربه.
قد يصحّ أو لا يصحّ القول إن التسخين الذي شهده صباحُ أمس بين حزب الله وإسرائيل هو انعكاسٌ للتعسّر الشديد في المفاوضات بشأن اتفاقٍ ما بشأن الحرب العدوانية في غزّة، غير أن الصحيح المؤكّد أن الطرفين ليسا في وارد مغادرة ما يقيمان عليه من تربّص كلِّ طرفٍ بالآخر، فليس محسوماً أن اتفاقا (أو تفاهما جزئيا) يخلُص إليه المتفاوضون في القاهرة والدوحة سيعني تهدئةً أو هدنةً غير متوافق عليها بينهما، ذلك أن العنوان الذي صارت تأخُذه مناجزة حزب الله العدو الإسرائيلي “حرب إسناد” (بعيداً عن حكاية وحدة الساحات) لا يُظهر العميق والبعيد في الصراع الذي يكاد يكون وجودياً بينهما. وهذا التباين الكبير في بياناتهما أمس، بشأن ما ضربه كلُّ طرفٍ في الطرف الآخر، ينتسب إلى ما هو دعائيٌّ وتعبويٌّ وسياسيٌّ ونفسي، أكثر مما هو عسكري وحقيقي. … وفي الأثناء، يبقى لبنان متروكاً في مهبّ هذا الصراع الذي يصل أحيانا إلى تخومٍ صِفرية، والمرتبط جوهرياً بفكرة إسرائيل عن نفسها، ولفكرة حزب الله عن نفسِه وعن دوره. … ولحكومة لبنان أن تُواصل اتصالاتها الديلوماسية كيفما شاءت، وتنظُر في خطط طوارئ وإغاثة مطلوبة، حمى الله اللبنانيين ونجّاهم.