“لعبة أمم” في فيينا!
محمد قواص
لا يمكن للدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة، أن تقارب المفاوضات النووية مع إيران إلا من شرفة الصراع المفتوح بين هذا الغرب من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى. كما أن بكين وموسكو الحريصتين على عدم امتلاك إيران للتميّز النووي حريصتان في الوقت عينه على الحفاظ على علاقات استراتيجية مستقبلية مع طهران وعدم نزوع إيران للمعسكر المقابل.
والحال أن المحادثات الحقيقية في فيينا تجري على قاعدة التوتر المقلق على الحدود الروسية الأوكرانية وعلى أساس الصراع المكشوف والمتصاعد بين الولايات المتحدة والصين.
ولا شك أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن وضع على طاولة محادثاته الافتراضية الأخيرة مع نظيره الأميركي جو بايدن، قبل أيام، ما يمتلكه من علاقات متقدمة مع طهران من شأنها أن تكون وازنة حاسمة في ترجيح كفّة المفاوضات في فيينا.
ولا شك أيضاً أن الموقف الأميركي-الغربي من الصين لا يشجع بكين على تصليب موقفها من الشروط الإيرانية للعودة إلى اتفاق عام 2015 وتسهيل الخروج باتفاق محدث.
يكاد المراقب أن يلاحظ أن “لعبة أمم” كبرى يجري رسمها في فيينا للخروج بنظام دولي جديد عصي على التشكل. وليس صحيحا أن المفاوضات محصورة بنادي اتفاق فيينا وأعضائه داخل مجموعة الـ 5+1 فقط (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الصين، روسيا)، بل أن كل الأطراف الطامحة إلى تثبيت موقعها والتموضع داخل خرائط العالم الجديدة حاضرة، تملي على المتفاوضين قواعد موازين القوى التي وجب عدم إغفالها في أي اتفاق سيتحدد بموجبه موقع إيران ودورها الجيوستراتيجي في المنطقة والعالم.
اندفع المسؤولون الأميركيون باتجاه الحلفاء في الشرق الأوسط وأوروبا بإيقاع مكثّف في الأسابيع الماضية. حتى أن المبعوث الأميركي روبرت مالي إلى إيران لم يوفّر موسكو في جولاته الاستطلاعية لينهل من تلك الجولات زاداً تأخذه واشنطن بعين الاعتبار. زار المنطقة بمراحل مختلفة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وزميله وزير الدفاع لويد أستن. سمع كل المسؤولين الأميركيين لهجة خليجية شبه موحدة تكرر القلق من إبرام اتفاق مع إيران على منوال ذلك الذي أُبرم في عهد باراك أوباما والذي لم يأخذ بالاعتبار هواجس أهل المنطقة. سمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (وهو جزء من “نادي الاتفاق النووي”) كلاما مكثّفا ومحددا أثناء جولته الخليجية الأخيرة، وبات أكثر تمسّكاً بما كان طالب به قبل ذلك من شراكة “دول أخرى” في أي اتفاق.
على أن الولايات المتحدة وكل الموقعين على اتفاق فيينا -بما في ذلك روسيا والصين- يصطدمون بموقف إسرائيلي صاخب مشكك ويكاد يكون رافضا لفكرة التفاوض مع إيران وإبرام أي اتفاق معها. ولئن لا تتمتع المجموعة الخليجية بعلاقات استراتيجية بنفس القوة والزخم مع كل طرف من مجموعة الـ 5+1، فإن إسرائيل تملك ذلك مع واشنطن ولندن وباريس وبرلين كما مع موسكو وبكين. واللافت أن التهويل الإسرائيلي بالخيار العسكري الكبير (حتى لو تمّ التوصل إلى اتفاق وفق بعض التصريحات) والذي تسعى واشنطن إلى استيعابه والاستفادة من أوراقه الوازنة في جنيف، لم يقابل بأي تحفظ أو استنكار أو استهجان أو إدانة من قبل الصين وروسيا المفترض أن “علاقات استراتيجية” تجمعهما مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
ويمكن تسجيل موقف روسي يقترب من الموقف الأميركي الغربي في قواعد مفاوضات فيينا. عبرت موسكو مرارا عن ذلك من خلال مواقف لاذعة صدرت عن مندوبها الدائم لدى المنظمات الدولية في فيينا، ميخائيل أوليانوف. حتى أن الرجل رد على وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان حين تسرب أنه وعد البرلمان بالعودة بالمفاوضات إلى نقطة خروج دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018. حينها لسَعه بتغريدة تؤكد أن المفاوضات ستعود إلى النقطة التي توقفت عندها بعد الجولات الست في يونيو الماضي.
بالمقابل يبقى موقف الصين إشكاليا متعلقا بتوتر علاقات بكين بواشنطن. يدور موقف الصين حول ما أعلنه ممثلها في المفاوضات، وانغ تسون، من أن “على الولايات المتحدة رفع كل العقوبات المتناقضة مع خطة العمل الشاملة المشتركة والتي تستهدف إيران أو أي أطراف ثالثة بما في ذلك الصين”، بما يحمل ماء إلى طواحين طهران.
وفق مشهد “لعبة الأمم” تقوم تكتيكات إيران في مقاربة مفاوضات فيينا.
طهران تحتاج إلى إبرام اتفاق جديد وهي التي تمسّكت بالاتفاق النووي رغم المهانة والاحتقار اللذين أنزلهما به قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب منه عام 2018. وتعبّر عن هذه الحاجة اللهجة الإيجابية التي يخرج بها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي كما وزير خارجيته عبد اللهيان وحتى رئيس الوفد الإيراني المفاوض علي باقر كني. يكفي إلقاء نظرة على طبيعة هذا الوفد الاقتصادية لاستنتاج الحاجة العاجلة لرفع العقوبات الأميركية. كل المنابر الرسمية في إيران تتحدث بتفاؤل عما يجري في فيينا، حتى أن المنابر الإعلامية، ومنها المحافظة، تحثّ على إنجاح المفاوضات.
لا يقوم تفاؤل طهران على حنكة مفاوضيها وعبقرية أوراق المقترحات التي تقدمت بها في فيينا، بل على الحقيقة التي تفرضها التناقضات الدولية وتنافر مصالح الكبار في العالم في جعل موقف إيران مرجّحا لشكل الخرائط الدولية التي تُحاك. غير أن إيران، وعلى خلاف الصين وروسيا اللتين تحظيان بهوامش ثرية للمناورة والابتزاز، لا تملك ترف التدلل طويل الأمد وهي التي ينزف اقتصادها وتتصدّع كل يوم أوراق نفوذها الإقليمي في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ولئن لا تشعر إيران (بحكم الخبرة والسوابق على مدى أكثر من أربعة عقود من عمر جمهوريتها) بأي قلق من التهويل الأميركي حينا والإسرائيلي خصوصا بالخيار العسكري، فإنها لا تريد أيضا دفع الأمور إلى مستوى ارتكاب سابقة من هذا النوع.
وفق “لعبة الأمم” وقراءة مشهد التوازنات الغربية الصينية الروسية العربية الإسرائيلية تخطُّ إيران طريقها نحو الاتفاق “الحتمي”. تطمح إدارة رئيسي إلى الاهتداء إلى اتفاق يحفظ ماء وجهها مقارنة بالاتفاق العتيد الذي كان توصل إليه فريق إدارة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني في جولات التفاوض الست السابقة بين أبريل ويونيو. تعرف أن “نادي فيينا” يعرف ذلك تماما وتعوّل على “تفهمه” لاجتراح نصّ يضع خطا عريضا تحت بند رفع العقوبات. ستذهب طهران في العناد والرفض ورفع مستويات التخصيب إلى أقصى حدّ متاح قبل لحظات من ردّ العالم بـ “الخيارات الأخرى” والارتقاء بالعقوبات من طابعها الأميركي إلى طابعها الأممي، ناهيك من عرض عضلات عسكري محتمل. عند حافة هذه الهاوية، وهي الخبيرة بتضاريسها ستوقّع إيران الاتفاق العتيد.
قد تكون مفاتيح الحل ترتبط بتحوّل جذري في موقف الصين التي تتشفى بسادية من ذلك الغرب الذي يمارس حردا معها. على أن للصين مصالح كبرى لن تضحي بها دائما دفاعا عن موقف إيران. طهران تعرف ذلك تماما. وإذا ما رأى الغرب أن إدارة رئيسي المحافظة تحتاج، لحسابات داخلية، إظهار وجوه عبوسة معاندة ممانعة متعنّتة، فإن هذا الغرب سيقدم لها خدمات جلى في هذا الخصوص بالرد بالتحذير والتهويل والغضب والحرد، ما يمدّ لطهران سلما للنزول من قمّة شجرتها العالية.