لماذا بدلت أنقرة موقفها حيال عضوية السويد؟
تدرك القيادات التركية حتما خطورة ما يدور من حولها واحتمال أن تدفع هي أيضا الثمن الباهظ في حال اتساع رقعة الانفجار في الحرب الأوكرانية وارتدادت ذلك على التوازنات الإقليمية التي ساهمت في تشييدها منذ عقود لحماية أمنها ومصالحها.
خاض الأتراك والروس عبر التاريخ 14 حربا كان فيها الرابح والخاسر. نسقت الإمبراطورية العثمانية في آخر أيامها مع الروس في الحرب العالمية الأولى لمواجهة أوروبا.
عادت ووقفت تركيا على الحياد في الحرب العالمية الثانية قبل أن تختار المحور الغربي في مطلع الخمسينيات وتلتزم بمعاهداته واتفاقياته في مواجهة النفوذ الروسي.
ومع ذلك لم تدخل أنقرة في معركة مباشرة مع الجار الروسي وحاولت التفاهم والتهدئة معه على أكثر من جبهة تداخلت فيها المصالح والحسابات. وهي من أجل ذلك لا تنحاز كليا إلى الغرب في الملف الأوكراني وتركت أبواب الحوار والتفاهم مع موسكو مشرعة، رغم إغضابها للعديد من الحلفاء والشركاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
لاحقا توترت العلاقات التركية الأمريكية بعد العام 2016 والمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، ومسار الملف السوري نتيجة التقارب التركي الروسي والتباعد التركي الأمريكي في شرق الفرات، وصفقة صواريخ إس 400 الروسية التي سحبت ورقة المقاتلة إف – 35 من يد تركيا وجمدت صفقة طائرات إف – 16.
كان ذلك بين الأسباب الكافية لاعتماد أنقرة نهجا وأسلوبا مغايرا لما تريده الإدارة الأمريكية في ملف الحرب الأوكرانية والانفتاح المتزايد على روسيا. التقت مصالح أنقرة وواشنطن مرة أخرى بعد سنوات من الخصومة والتباعد.
وكان موضوع التوسعة الأطلسية والخدمات التي تقدمها تركيا للغرب في ملف تفعيل اتفاقية المضائق ضد السفن الحربية الروسية، واتفاقيات تصدير الحبوب الأوكرانية، ودورها في عمليات تبادل الأسرى بين كييف وموسكو كافيا لدفع أردوغان باتجاه التلويح بورقة “الصفحة الجديدة في العلاقات التركية الأمريكية”.
لكن أردوغان الذي يريد مقايضة “العضوية السويدية في الناتو مقابل العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي” يعرف جيدا أنها معادلة صعبة التنفيذ لأسباب كثيرة يتقدمها وجود أمريكا في الناتو وعدم وجودها في الاتحاد الأوروبي حيث لا دور ولا ثقل لها هناك.
لا بل إن أردوغان يعرف أكثر من غيره أنه كلما حاولت واشنطن – وهي لن تفعل ذلك – التوسط بين أنقرة وأوروبا فإن ارتدادات ذلك ستكون سلبية على الطلب التركي. فلماذا يقدم على مناورة خاسرة من هذا النوع؟
من هنا فإن تركيا لن تغضب الصديق بوتين بعد كل ما أنجز من تفاهمات وعلاقات سياسية وتجارية وتضحي بتسليم بعض قيادات “آزوف” لزيلينسكي دون علم موسكو وموافقتها.
ولن تذهب وراء خسارة دورها في صفقة الحبوب ومحاولة تمديدها أو التلويح بخطط تنسيق تصنيع عسكري مع كييف وهي تعرف أن ما يقدمه بوتين لا يقل قيمة وأهمية عن ذلك. لن يضحي أردوغان بالأوراق التي يملكها في تحركه على خط روسيا – الغرب قبل أن يحصل على أوراق أهم منها. فما الذي يحاول أردوغان فعله؟ وأين وكيف سيكون له ذلك؟
تريد أنقرة تحريك أكثر من ملف في علاقتها مع الغرب لكنها تريد أن يتم ذلك عبر تسجيل اختراق استراتيجي بطابع إقليمي ودولي وفرصتها الوحيدة هي محاولة إنهاء الحرب في أوكرانيا. يريد أردوغان بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة التي منحته فرص المناورة الأوسع مع اللاعبين الإقليميين، تحقيق إنجاز سياسي بطابع دولي وجوائز ترضية أمريكية أوروبية، تدعم مبادرته الجديدة في الحرب الأوكرانية التي ستعزز من موقع ودور تركيا الإقليمي في المرحلة القادمة.
شكر بايدن نظيره التركي على شجاعته ودبلوماسيته في موضوع السويد. فرد أردوغان أن جهوده ستتواصل في ملفات إقليمية تقلق بلاده. هو قد يكون يشير إلى شرق الفرات وإيجه وقبرص والسياسة الأمريكية التي تغضب أنقرة هناك. لكن الرئيس التركي قد يكون يتحدث عن القرم والبلقان والقوقاز وهي لا تقل أهمية وقيمة عن الملفات الأخرى بالنسبة لتركيا.
تريد أنقرة تنازلات أمريكية أوروبية في ملف الحرب الأوكرانية وتريد من روسيا أن تقبل الترتيبة الجديدة نحو الحلحلة وهي ناقشت الموضوع ربما مع زيلينسكي الذي أعطى موافقته المبدئية على التحرك التركي.
بإيجاز أكثر سيستغل أردوغان فرصة حالة الإرهاق الروسي الأوكراني في الحرب، لطرح مبادرة جديدة نحو الحوار والمصالحة والسلم في القرم، ويريد من اللاعبين المؤثرين في الملف دعمه مرة أخرى. لم تكن أنقرة لتغضب موسكو على هذا النحو دون موافقتها. ولم تكن أنقرة كذلك لتستقبل الرئيس الأوكراني زيلينسكي ومنحه بعض الهدايا دون الاستعداد لأخذ البديل.
يعرف أردوغان أنه قد يغضب واشنطن وموسكو على السواء إذا لم يكن ذلك بعلمهما وتشجيعهما له، لذلك قد تكون المفاجأة إيجابية في الملف الأوكراني ومسار الحرب بقدر حجم خطورة المغامرة وارتداداتها.
يقول الإعلام التركي المقرب من الحزب الحاكم إن أنقرة أخذت ما تريد في قمة ليتوانيا. بالمقابل تشكر القيادات الغربية تركيا على خطوة فتح الطريق أمام عضوية السويد الأطلسية. أصوات صادرة عن قيادات روسية تعكس حجم الغضب والانفعال حيال الخطوات التركية الأخيرة في التعامل مع الملف التي وصلت إلى توصيف “الطعن في الظهر”.
فلماذا يقحم أردوغان نفسه في مغامرة خطيرة وحساسة من هذا النوع؟ حماية التوازنات المحيطة بتركيا مهم بالنسبة لها حتما . لكن أنقرة تتطلع أيضا صوب تفعيل الاتفاقيات والصفقات القديمة مع الغرب. والأهم طبعا هو وقوف هذه العواصم إلى جانبها في تجاوز أزمتها الاقتصادية المالية الحالية.
يريد أردوغان الذي خرج قويا في الانتخابات التركية قبل شهرين أن يستغل أيضا الأوراق الروسية التي حصل عليها في السنوات الأخيرة من خلال التقارب والانفتاح الثنائي والإقليمي على موسكو، إلى فرص مساومة تركية أمريكية روسية نحو التهدئة في القرم. هناك من يعرف ذلك في الإقليم وينسق معه ويدعمه.
حصل أردوغان على فرصة قد لا تعوض نتيجة محاصرة الغرب لبوتين في الملف الأوكراني.
هو يريد أن يستفيد من ذلك باتجاه دعوة الرئيس الروسي للتوجه نحو طاولة الحوار السياسي مجددا. الضامن هنا هو أردوغان بأن التسويات ستتم في إطار لا غالب ولا مغلوب.
زيارة زيلينسكي لأنقرة تندرج في هذا الإطار وليس بهدف اصطحاب قيادات من كتيبة “آزوف”. وفتح أردوغان الطريق أمام عضوية السويد وهو في طريقه للقمة الأطلسية قد تكون هدية لبوتين لمساعدته على الخروج من ورطة الحرب في أوكرانيا قبل أن تكون خدمة لبايدن في مسألة التوسعة الأطلسية.
الإبحار في السفينة الأطلسية خيار قديم بالنسبة لتركيا يعود لمطلع الخمسينيات وسببه الأول هو مجاورة تركيا لروسيا.
لا يمكن للأتراك المغادرة بعد هذه الساعة وهم في عرض البحر، حتى ولو اختلفت الآراء وتضاربت المصالح وحتى لو كانت العروض الروسية المقدمة لأنقرة في ملفات سياسية واقتصادية وأمنية مغرية جدا.
كلما تعمقت الخلافات الغربية الروسية كلما تراجعت حظوظ أنقرة في اللعب على حبال المناورة بين الشرق والغرب. قرار دعم عضوية السويد والتفاهم مع واشنطن من جديد وتذكير القيادات الأوروبية بالعضوية التركية في الاتحاد تؤكد ذلك.
فشل أردوغان في مغامرة من هذا النوع يعني أنه لا علاقة تركية أمريكية جديدة وجيدة قبل أن تحسم واشنطن علاقتها مع موسكو في الملفات الخلافية الكثيرة وهذا ما لن يحدث. وأنه على تركيا تقبل الأمور كما هي والتعامل معها على هذا الأساس ومواصلة ما تحاول فعله منذ عقود.