لماذا تقطع فرنسا جسورها بالمغرب العربي؟
أسامة رمضاني
قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التقليص في أعداد التأشيرات الممنوحة لتونس والمغرب والجزائر بنسب تتراوح بين 33 و50 في المئة قرار صعب الفهم.
تتلخص المبررات الرسمية الفرنسية في أن دول المغرب العربي المعنية بهذا الإجراء رفضت التعاون بشكل مقنع مع باريس في استرجاع مواطنيها المعنيين بإجراءات ترحيل على خلفية وجودهم على التراب الفرنسي بصفة غير شرعية أو لتورطهم في أنشطة متطرفة جعلتهم تحت طائلة القانون ولم تعد فرنسا ترغب في وجودهم على أراضيها.
باعتراف الناطق باسم الحكومة الفرنسية القرار “غير مسبوق” ربما ليس فقط للأسباب التي ذكرها. فقد قدمت الدول المعنية أرقاما أخرى لأعداد جوازات المرور التي أصدرتها لتيسير عودة مهاجريها. كما قدمت تفسيرات معقولة من بينها حاجتها للتثبت من هوية الأشخاص المراد ترحيلهم حتى لا يختلط الحابل بالنابل وتجد نفسها تستقبل أناسا ليسوا من مواطنيها.
بقي القرار “غير مسبوق” باعتبار اللهجة الحادة غير المعهودة التي استعملتها باريس تجاه العواصم المغاربية الثلاث.
الدخول في مزايدات ديماغوجية مع اليمين المتطرف لا يخدم مصلحة فرنسا ذاتها ولا يقدم حلولا معقولة أو قابلة للتطبيق للمشاكل المطروحة
لم تكن عبارات غابريال آتال الناطق الرسمي باسم الحكومة الفرنسية تشي بوجود مسار هادئ لتجاوز الخلاف، إذ صرح قائلا “كان هناك حوار وبعد ذلك كان هناك تهديد (من باريس). وإننا اليوم نضع تهديداتنا موضع التنفيذ”.
والإجراء كذلك غير مسبوق باعتباره يمثل أول عقوبات معلنة تفرضها فرنسا على أقرب البلدان إليها جنوب المتوسط، وليست بلدانا معادية لها أو هي دول مارقة.
لم تفرض باريس أية عقوبات على كانبيرا (العاصمة الأسترالية) ولندن وواشنطن التي كانت أضاعت عليها صفقة غواصات بمليارات من الدولارات دون سابق إنذار، لأنها دول صديقة لفرنسا والعقوبات لا تفرض على الأصدقاء. هناك ما يبرر تساؤل البلدان العربية الثلاث إن كانت تعرضت لإجراءات زجرية لأن باريس تعتقد أنها في موقع يسمح لها بذلك وإن لم تلحق هذه البلدان أضرارا لا يمكن تلافيها مثل أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا.
والمفارقة أن العقوبات لم تفرض على مؤسسات رسمية أو مسؤولين حكوميين بل على أفراد لم يكن لهم أي دخل في المفاوضات القنصلية التي تقول فرنسا إنها فشلت. طالت العقوبات مجتمعات ما زال الكثير من أفرادها يرى في فرنسا الوجهة الأفضل للسياحة والدراسة والأعمال.
تعلق الإشكال بأشخاص كانوا في وضعية غير شرعية ولكن العقوبات تسلطت على آخرين ما زالوا مصرين على دخول البلدان الأجنبية من أبوابها الشرعية. فمن المستبعد جدا أن تحبط العقوبات الفرنسية عزائم المهاجرين السريين الذين يسافرون بلا تأشيرات ولا جوازات سفر أصلا.
ستعقد هذه العقوبات ظروف سفر وإقامة المغاربة والتونسيين والجزائريين المرتبطين بمصالح حيوية في فرنسا وفيهم الكثيرون من المرتبطين بعلاقات عائلية فيها.
بعض الصحف الفرنسية رأت في الإجراءات الفرنسية ردة فعل على قضايا خلافية متعددة لا علاقة لها بأوضاع المهاجرين.
بعض هذه القضايا الخلافية (مثل مشكلة الإرث الاستعماري بين فرنسا والجزائر) مشاكل ذات طابع ثنائي مطروحة للنقاش دبلوماسيا وليست قابلة للحل بالعقوبات. هناك مشاغل أخرى غير معلنة مرتبطة بفقدان فرنسا لجانب من مصالحها الاستراتيجية وتأثيرها وأسواقها في المنطقة المغاربية لفائدة بلدان مثل الولايات المتحدة والصين وحتى تركيا. ولكن هل بحجب التأشيرات تستطيع فرنسا التغلب على المنافسة واستعادة مجدها التليد؟
وهل أنه بمنع التأشيرات عن التونسيين والمغاربة والجزائريين تزيد فرنسا (ومنظومتها الفرانكفونية) في جاهزيتها لتنظيم قمة الدول الناطقة بالفرنسية المزمع انعقادها بعد أسابيع فقط في جزيرة جربة التونسية؟
المحللون الفرنسيون يرون أن الكثير من المبررات غير المعلنة أيضا (وإن كانت لا تجانب الصواب) تتعلق بالظرف الانتخابي الذي تمر به فرنسا، إذ يخوض ماكرون في مايو القادم معركة من أجل البقاء في الإيليزيه ويتوقع أن تكون مرشحة أقصى اليمين مارين لوبان منافسته الأولى في الدور الثاني من السباق. ولكن ليس من المتوقع أن تنجح زعيمة “التجمع الوطني” في تحقيق المفاجأة.
بغض النظر عن النتيجة النهائية للاقتراع فقد نجح اليمين وجناحه المتطرف في فرض سردية خطر الهجرة غير الشرعية وربط التطرف ليس فقط بالحركات الراديكالية والإرهابية وإنما بالإسلام والمسلمين كديانة.
وأكبر مؤشر على هذا التطور المثير للانشغال هو أن تنجح شخصية متطرفة ومثيرة للجدل مثل الكاتب إيريك زمور في استقطاب ما لا يقل عن 13 في المئة من الرأي العام لفائدته رغم أنه من المدافعين عن نظرية “الاستبدال الكبير” التي تدعي أن الأوروبيين البيض مهددون بالاستبدال الديمغرافي من قبل العرب والأفارقة، وهي نظرية يبرر بها بعض متطرفي أقصى اليمين في الغرب اللجوء للعنف والإرهاب.
باريس لم تفرض أية عقوبات على كانبيرا ولندن وواشنطن التي كانت أضاعت عليها صفقة غواصات بمليارات من الدولارات دون سابق إنذار، لأنها دول صديقة لفرنسا
زمور يرى أيضا في موجات الإجرام في فرنسا “جهادا” من قبل المسلمين ضد منظومة القيم “المسيحية”.
تدحرجت الأفكار النمطية والعنصرية مثل كرة الثلج بعد الأحداث الإرهابية التي شهدتها فرنسا خلال الأعوام الأخيرة. كان من المشروع أن تتصدى فرنسا للدفاع عن أمنها ضد التنظيمات الإرهابية وأن تتصدى للهجرة غير الشرعية بكل الوسائل القانونية المتاحة وعلى أساس التعاون مع البلدان المغاربية وليس باتخاذ الإجراءات ضدها.
والدخول في مزايدات ديماغوجية مع اليمين المتطرف لا يخدم مصلحة فرنسا ذاتها ولا يقدم حلولا معقولة أو قابلة للتطبيق للمشاكل المطروحة.
كل ما يحققه الإجراء الفرنسي الجديد هو التهديد بقطع الغصن المشترك الذي كانت إلى حد الآن تجلس عليه باريس وتونس والجزائر والرباط، رغم أن العلاقة بين الطرفين بقيت ثابتة ولم تؤثر فيها كل الحملات الانتخابية السابقة.
وستبقى العلاقة كذلك رغم الرسالة غير المطمئنة التي يبعث بها إجراء الإيليزيه إلى شعوب المغرب العربي.