لماذا ذهب ماكرون إلى انتخابات برلمانية مُبكّرة؟
عمر كوش
كان مفاجئاً لمراقبين عديدين قرارُ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حلّ الجمعيّة الوطنيّة (البرلمان) والدعوة إلى إجراء انتخابات مُبكّرة في 30 من الشهر الحالي (يونيو/ حزيران)، وذلك بعد الهزيمة الكبيرة، التي مُني بها حزب النهضة، الذي يتزعّمه في الانتخابات البرلمانية الأوروبية، التي جرت أخيراً، بحصوله على 14.6% من أصوات الناخبين، فيما حصد حزب التجمّع الوطني، اليميني المتطرّف، بقيادة مارين لوبان 31.37% من الأصوات، إضافة إلى حصول حزب “الاسترداد” الأشدّ تطرّفاً من التجمّع الوطني، على 5.47% من الأصوات، إذ تعدّ مكاسب أحزاب اليمين المُتطرّف في فرنسا قياسيّة، وغير مسبوقة، مقارنةً بجميع الانتخابات الأوروبية السابقة، الأمر الذي يطرح تساؤلات بشأن دوافع (وحيثيات) قرار الرئيس ماكرون الدعوة إلى انتخابات تشريعية مُبكّرة في فرنسا، وعمّا إذا كانت حساباته دقيقة أو مستعجلة ومتهوّرة.
اعتبر فرنسيون كُثرٌ أنّ ماكرون يخاطر بمنح حزب التجمّع الوطني فرصة التحوّل إلى الحزب الأكبر في الجمعية الوطنية الفرنسية، وربّما يحصل على الأغلبيّة المطلقة، حسبما تفيد استطلاعاتٌ للرأي. وإذا حصل هذا السيناريو سيقود الحكومة الفرنسية. لذلك، هناك تخوّف من أن تدفع هذه المخاطرة فرنسا إلى أحضان التطرّف اليميني. ولكن، يبدو أنّ ماكرون أراد إظهار نوع من رباطة الجأش بدعوته إلى إجراء انتخابات مُبكّرة، فاعتبرت أوساطٌ في حزبه أنّ قراره يُعبّر عن “فعل ثقة” بالناخبين الفرنسيّين، فيما ترى أوساطٌ أخرى أنّه يخاطر في الخلط بين “الثقة” و”الانتحار السياسي”، عبر وضع الفرنسيين أمام اختبار الخيارات القصوى، حيث أراد ماكرون توجيه صدمة للناخبين الفرنسيين، لكي يبرهنوا على عدم استعدادهم لوضع فرنسا تحت حكم اليمين المُتطرّف. وبالتالي، إنه يراهن على أنّ خيار المجتمع الفرنسي سيَتَجسّد في صالح الكتلة التقدّمية، وليس في صالح القوى المُتطرّفة من اليمين واليسار، حسبما يعتقد رئيس الوزراء الفرنسي غابريال أتال.
قد لا تخرج مسوّغات معسكر ماكرون عن أنّ دعوته إلى انتخابات مُبكّرة بُنيت على أساس وجود غالبية جمهورية، تتكّون من كلّ الناخبين الذين رفضوا التصويت لأحزاب اليمين المُتطرّف. لكن لا أحد يضمن أنّها ستصوّت لمعسكر ماكرون، خصوصاً أنّه فشل في جذبهم للتصويت له طوال الفترة الماضية، ولا توجد مُؤشّرات جديدة تدلّ على أنّه قادر على إقناعهم بتغيير رأيهم خلال الأسبوعين المقبلين (؟)
الأرجح أنّ الطرف الذي تمثّله قوة اليسار ستكون له كلمته في انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية المُقبلة، خصوصاً بعد أن اتفق كلّ من الحزب الاشتراكي وحزب فرنسا الأبيّة وحزب الخضر والحزب الشيوعي على تقاسم الدوائر الانتخابية الـ577، ضمن تحالف الجبهة الشعبية، الذي يُذكّر بالتحالف الذي شُكّل في فرنسا عام 1936، وفاز بالانتخابات البرلمانية في ذلك العام. وفي إثرها، ترأس الحكومة الفرنسية، ليون بلوم، أوّل رئيس حكومة من الحزب الاشتراكي في فرنسا. وكانت تلك المرّة الأولى التي حصل فيها الحزب الاشتراكي على الأكثرية في الجمعية الوطنية الفرنسية. وما يدعم إمكانية حدوث مثل هذا السيناريو، أنّ الحزب الاشتراكي، بقيادة رافاييل غلوكسمان، حصل على 13.83% من الأصوات في آخر انتخابات أوروبية، وهي نتيجة لافتة، نظراً إلى المسار التنازلي للحزب في الانتخابات السابقة، فيما حصل حزب فرنسا الأبيّة بزعامة جان لوك ميلانشون على 9.89% من الأصوات، أما حزب الخضر فقد حصل على 5.5%، والحزب الشيوعي على 2.36%. في المقابل، لم تتمكّن أحزاب اليمين المُتطرّف من التغلب على خلافاتها وتشكيل تحالف بينها في فرنسا التي سجلت فيها انتصاراً انتخابياً كبيراً في المستوى الأوروبي، وهو ما يعبّر عن عمق انقسامها، ويقلّل من فرص نجاحها في الانتخابات الفرنسية المُقبلة.
ربّما، كان الأجدى بالرئيس ماكرون عدم اتخاذ قراره، لأنّ تأثير نتائج الانتخابات الأوروبية عادةً ما يكون ضعيفاً في الانتخابات التشريعية الفرنسية، لكنّ هناك من يجادل بأنّه أراد أن يضع أحزاب اليمين المُتطرّف، وخصوصاً حزب التجمّع الوطني، في اختبار مدى قوّة شعبيته في المستوى الفرنسي، وذلك على أبواب الانتخابات الرئاسيّة المُقبلة في 2027، أي إنّ ماكرون أراد من قراره كشف مدى قوّة اليمين المُتطرّف وتعريته في حال فوزه بالانتخابات التشريعية، لأنّها ستكشف عجزه عن الوفاء بوعوده في حال وصوله إلى الحكم في فرنسا، مثلما حدث لأحزاب اليمين المُتطرّف في دول شمال أوروبا التي تراجعت جاذبيتها كثيراً. ففي السويد، مُني حزب ديموقراطيو السويد، اليميني المُتطرّف، بخسارة تاريخية في الانتخابات للمرّة الأولى منذ تأسيسه في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وجاءت نتائج حزب الفنلنديين المُتطرّف مخيّبة لآمال أنصاره، وكذلك الأمر في الدنمارك، التي تراجع فيها اليمين المُتطرّف إلى المركز السادس، فيما فاز حزب الخضر بالمركز الأول، وتبعه الاشتراكيون.
الواقع أنّه منذ صدور قرار حلّ الجمعية الوطنية الذي اتخذه ماكرون، تسارعت عملية إعادة الاصطفاف السياسي في فرنسا، ولعلّ من المهم انتظار الأسابيع القليلة المُقبلة للحكم على قرار الرئيس الفرنسي. وفي جميع الأحوال، الأجدى للطبقة السياسية الفرنسية معالجة المشكلات الكثيرة التي يواجهها المجتمع الفرنسي، التي لا تختزل في ما يمكن تسميتها “ديستوبيا” الهجرة والإرهاب، حسبما ما تحاول تسويقه قوى وأحزاب اليمين المُتطرّف، ومعها اليمين التقليدي أيضاً، لأنّ التركيز على شيطنة الآخر يُعبّر عن حاجة مَرَضِيّة، غايتها إشباع نزعة الكراهية لدى مروّجيها، لكنّه لا يفيد شيئاً في حلّ الأزمة المُستفحِلة في المجتمع الفرنسي الذي لن تغنيه أيديولوجيا الكراهية والعنصرية عن محاولة البحث عن حلول حقيقية لمشكلاته وأزماته، خصوصاً أنّ مجيء ماكرون نفسه إلى الحكم في فرنسا، في 2017، كان مُؤشّراً على أزمة سياسية، أعلنت نهاية الاستقطاب التقليدي بين أحزاب اليمين واليسار الفرنسي، والانتصار لمعسكر الأغنياء.