لماذا يزدهر الإرهاب في أفريقيا؟
ياسر عبد العزيز
بينما يسود الارتياح أوساط السياسة العالمية لانحسار التهديدات الإرهابية في العديد من المواقع التي شهدت نشاطاً إرهابيا واضحا في فترات سابقة، فإن المخاوف تتزايد بسبب تحول القارة الأفريقية إلى بؤرة ساخنة للعمل الإرهابي.
ورغم النجاحات التي تحققت في دحر الأنشطة الإرهابية في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط تحديداً، فإن تصاعداً متسارعاً لإيقاع تلك الأنشطة يظهر بوضوح في دول القارة الأفريقية، التي تعاني أساساً من جملة من التحديات الصعبة؛ مثل الفقر، والتغيرات المناخية الحادة، والانقلابات العسكرية، وانهيار سلطة الدولة في عديد البلدان، فضلاً عن شيوع الجريمة المُنظمة، وتردي مؤشرات التنمية البشرية عموما.
ولم يكد العالم يشعر بالارتياح لتراجع تأثير تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في الحالة الأمنية في عدد من مواقع نفوذهما التقليدية، حتى استيقظ على بروز تهديدات إرهابية جديدة في القارة السوداء، وهي تهديدات لا تقتصر على المنظمات “الجهادية” ذات التأثير العالمي، لكنها تصدر أيضاً عن جماعات إرهابية محلية ترعرعت في حاضنات خارجية أو داخلية، وانطوت على آليات تمركز وروابط تنظيمية قوية، مكنتها من الهيمنة على مساحات واسعة في دول عديدة، واستطاع بعضها تنظيم عمليات عبر الحدود.
وفي محاولة لفهم الحالة الإرهابية العالمية الراهنة، أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مسحه السنوي المُعنون بـ«مؤشر الإرهاب العالمي»، وهو المسح الذي تضمن محاولة الإجابة عن السؤال المُهم: لماذا ينخرط شباب القارة الأفريقية في الأنشطة الإرهابية باطراد؟ ولكي يجيب «مؤشر الإرهاب العالمي» عن هذا السؤال المهم، الذي يشكل خطوة أساسية لتحليل ماهية الظاهرة الإرهابية، وفهم دوافع أعضاء الجماعات التي تمارس العنف لأغراض السياسة، فقد أجرى فريق من الباحثين لقاءات مُقننة مع مئات من الأعضاء السابقين في تلك الجماعات، خصوصا تلك التي ازدهر نشاطها أخيراً في منطقة جنوب الصحراء الأفريقية.
وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فقد وجد هذا المسح العلمي أن الدافع الرئيس وراء التحاق هؤلاء الشبان بالمنظمات الإرهابية لا يعود إلى المعتقد الديني كما هو سائد، وإنما يرجع إلى “الرغبة في الحصول على عمل”.
فعند سؤال المبحوثين، الذين بلغ عددهم مئات عدة، عن أسباب التحاقهم بتلك الجماعات الإرهابية؛ أفاد 17% منهم فقط بأن الدافع الرئيس لذلك كان “المعتقد الديني”، بينما أفاد 22% بأن السبب يرجع إلى رغبتهم في “الانضمام إلى العائلة والأصدقاء”، فيما قال 25% منهم أن السبب يرجع إلى “البحث عن فرصة عمل”.
والواقع أن نتائج هذا المسح، التي تبدو مفاجئة للبعض، تُعد منطقية ومُعبرة عن جملة من الدراسات الحديثة التي أنجزتها مراكز تفكير دولية بخصوص الظاهرة الإرهابية ودوافع الإرهابيين.
فعلى مدار فترة طويلة، ظهرت نظريات تقول إن النزوع إلى العمل الإرهابي يعود إلى دافع رئيس يتعلق بالتأويل الديني و”الالتزام العقائدي”، كما أن جميع الإرهابيين يستخدمون التأويلات الدينية لتسويغ مواقفهم الإجرامية، وهو أمر جرى باطراد عبر تاريخ النشاط الإرهابي.
لكن مدرسة “المادية الثقافية” تشير إلى أن الحياة الاجتماعية ذات طابع عملي بصورة أساسية، وبالتالي فإن أي ظاهرة مجتمعية تعود في بنائها إلى ثلاثة عناصر: بنية تحتية Infrastructure، وبنية Structure، وبنية فوقية Super Structure.
ووفق هذه النظرية، فإن قرار الانخراط في الأنشطة الإرهابية يجري عبر تلك التراتبية؛ حيث تتعلق البنية التحتية لهذا القرار بالمصالح العملية والحاجات المادية المباشرة (الطعام، والمال، والوظيفة)، بينما يتجسد العنصر الثاني (البنية) في الروابط التنظيمية والوسائل المتاحة لممارسة العمل الإرهابي (العلاقات الاجتماعية والأسرية والتنظيمات المهيمنة محلياً وتفتت سلطة الدولة وتوافر السلاح).
أما العنصر الثالث الذي يعزز قرار الانخراط في الأعمال الإرهابية، فيتعلق بالبنية الفوقية، أي التسويغ الأيديولوجي، والتعزيز الأخلاقي، والتبرير القيمي، وهو الأمر الذي يمكن أن نجده في التأويلات الدينية المنحرفة التي يستند إليها الإرهابيون عند تقديم أنفسهم لجمهورهم أو للعالم.
فالإرهابيون يستخدمون القيم الثقافية والدينية السائدة في بيئتهم المحلية لتسويغ مواقفهم، والعكس ليس صحيحاً بطبيعة الحال، لأن تلك القيم موجودة في كل زمان وفي كل مجتمع، لكن ما يجعلها تتحول إلى “دافع” من دوافع الإرهاب هو توافر الروابط التنظيمية والوسائل العملية والحاجة المادية المُلحة المتمثلة في “البحث عن وظيفة”، لمواجهة تحديات الفقر والبطالة والجوع.
تحقق نتائج هذا البحث فائدة كبيرة للمهتمين بمكافحة الأنشطة الإرهابية، كما أنها تكشف تهافت حجة الربط التلقائي بين دين معين، أو تأويل محدد له، وبين النزعات الإرهابية، فضلاً عن أنها تساعد على اقتراح وسائل عملية ناجعة لمكافحة الإرهاب ومحاولة تجفيف منابعه البشرية.
تتواتر الأدلة التي تثبت أن دوافع الإرهاب الرئيسة هي دوافع مادية وعملية، تتعلق بالظروف التي يعيش فيها أعضاء الجماعات الإرهابية، والوسائل المادية والروابط التنظيمية المُتاحة لاستقطابهم وتعزيز بقائهم ضمن خرائط الإرهاب.
ورغم أن التسويغ الأيديولوجي المستند إلى تأويلات دينية ودوافع “قيمية” يظل فاعلاً في هذا الصدد، فإن تلك الدراسات توضح أن فاعليته ثانوية، وهو الأمر الذي يستلزم تركيز عمليات مكافحة الإرهاب على الاستثمار في أنشطة التنمية ورعاية السكان وتعليمهم والارتقاء بسبل عيشهم، بموازاة النهجين الأمني والعقائدي.