ليبيا: تضارب المصالح وراء فشل المجتمع الدولي
الحبيب الأسود
مرّ الرابع والعشرون من ديسمبر دون انتخابات في ليبيا، بينما لا يزال المجتمع الدولي يدير أسطوانته المشروخة، ويتحرك من داخل طاحونة الشيء المعتاد، معتمدا على ذات اللغة الخشبية والمفردات المبتذلة، ولاسيما في توصيفه للوضع العام وإصراره على تنظيم الاستحقاق واحترام إرادة الليبيين.
قبل أيام قليلة من الموعد المحدد، كان جميع الليبيين على يقين من أن الانتخابات الرئاسية ستؤجّل، بينما كانت بعض الدول المؤثرة والكبرى لا تزال تشدد على ضرورة احترام تاريخ الرابع والعشرين من ديسمبر. لقد كان واضحا أن المجتمع الدولي اعتاد على إرسال الكلام على عواهنه، وعلى عدم مقاربته مع الواقع الحقيقي على الأرض، تماما كما هو الحال الآن، حيث تخرج بعض القوى الخارجية للتأكيد على تنظيم الاستحقاق الرئاسي في الرابع والعشرين من يناير القادم، فقط لأن هذا التاريخ ورد كمقترح صادر عن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في بيان اعترافها بفشل اعتماد التاريخ السابق.
كثيرا ما يتم تركيز النظر على بعض المواقف الإيجابية من داخل المشهد الليبي، ولو كانت قليلة، مع إغفال الجوانب السلبية والعراقيل، وإن كانت الغالبة، والسبب أن المجتمع الدولي ذاته يعاني من فقدان البوصلة وغياب الرؤية لما يدور في ليبيا، وذلك لاعتبارات عدة، أبرزها أن كل طرف يقرأ الواقع أو يستقرئ أبعاده وفق حساباته النفعية الخاصة ولو كانت ضد مبدأ الحل، ومن منطلق الصراعات والتجاذبات الدائرة بين القوى المتنافسة على الاستفادة من البلد الغني الواقع في شمال أفريقيا بثروات ضخمة وأهمية استراتيجية قصوى.
واهم من يعتقد أن المجتمع الدولي جمعية أو منظمة خيرية هدفها خدمة الشعوب المقهورة والمجتمعات المنكوبة، حتى مجلس الأمن يعمل وفق تقاسم المصالح بين الدول دائمة العضوية، وبمنطق لا يخلو من روح المغالبة ليس بمواد القانون ولكن بحسب القدرة على العبث بالحقائق وتزوير الوقائع، وما يلي ذلك من مساومات على تقاسم الغنائم.
هناك صراع عنيف يدور على أكثر من صعيد بين الدول المتداخلة في الأزمة الليبية والتي ينعكس تناقض مصالحها على طبيعة مواقفها من الفاعلين السياسيين والميدانيين في البلاد، نعم هناك صراع معلن بين واشنطن وموسكو، ولكنه ليس الوحيد، فتركيا تريد نصيب الأسد، وإيطاليا تطمح إلى استرجاع تاريخ شاطئها الرابع، وبريطانيا تدير ملفات المال والاقتصاد والمؤسسات السيادية من تحت الطاولة، وفرنسا ترى في ليبيا مصلحة اقتصادية وامتدادا لأمنها القومي من داخل مستعمراتها السابقة، حتى الجزائر لا تريد لمصر أن يتوسع تأثيرها في طرابلس.
منذ أشهر كانت هناك توافقات على تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في الرابع والعشرين من ديسمبر، ثم قرّر مجلس النواب تخصيص ذلك اليوم للدور الأول من الاستحقاق الرئاسي، وتم القبول بذلك على مضض، وفتحت المفوضية باب قبول الترشحات، وتقدم الراغبون في خوض غمار السباق بملفاتهم، ومن هناك بدأت العراقيل الحقيقية بسبب المواجهة المفتوحة بين القوى الخارجية حول مراهنة كل طرف منها على هذا المرشح أو ذاك ومدى ما يتمتع به من حظوظ في صناديق الاقتراع.
ومما يزيد من حدة الصراع أن المجتمع الدولي دفع بكل قوة نحو انتخابات لاختيار رئيس لدولة لم تتوفر لها بعد مرجعية دستورية معبرة عن الإرادة الشعبية، وهو ما يعني أن الرئيس المنتخب قد ينقلب نهائيا على المسار التعددي والديمقراطي ويتجه إلى تكريس دكتاتورية فعلية، بل وقد يجد تفهما من بعض القوى الخارجية لذلك سواء بالاعتماد على سياسة المصالح ودبلوماسية الصفقات، أو كحل أخير للتصدي لحالة الانفلات الشامل التي عرفتها ليبيا خلال السنوات العشر الماضية.
وهذا الأمر ليس مستبعدا، فنزعة الاستبداد تكاد تكون موجودة لدى جميع الفرقاء، وكذلك نزعة الميل إلى الفساد، وفكرة السيطرة على السلطة والثروة ليست مجرد نزوة فردية، وإنما تجد لها حواضن قبلية ومناطقية وفئوية، وهناك مدن ترى أنها الأولى بالحكم، أو أنها ضحت من أجل الديمقراطية ومن حقها أن تجني ثمارها، وهناك تيارات سياسية وأيديولوجية غير مقتنعة بفكرة التداول السلمي على السلطة، وهناك من يعيشون تحت هيمنة مطلقة لفكرة الانقلاب.
أحيانا يبدو أن الحديث عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والمناداة بالعدالة والمساواة والتداول السلمي على الحكم، وإبداء الحرص على احترام إرادة الشعب الليبي ليست سوى شعارات في أسواق الكساد السياسي الأممي، بينما هناك واقع آخر يدور على الأرض من تجلياته التلاعب بمفهوم الشرعية والتمكين لبعض الشخصيات الفاقدة لأي حزام شعبي أو غطاء اجتماعي في مؤسسات الدولة، والصمت على جرائم الميليشيات والجماعات المسلحة منذ العام 2011، وارتباط الكثير من الدول بعلاقات مصلحية مع أمراء حرب متورطين في جرائم لا تسقط بالتقادم، واحتضانها لأموال ضخمة تم نهبها من داخل ليبيا، ودفاع بعض الحكومات وخاصة الغربية، التي تتبنى مكافحة الفساد في بلدانها عن مسؤولين كبار يمارسون الفساد على نطاق واسع في ليبيا.
منذ الإطاحة بالنظام السابق في العام 2011، لم يجرؤ المجتمع الدولي على توجيه عقاب رادع للميليشيات المسلحة وأمراء الحرب. كانت هناك ضربات موجهة إلى مسلحين من تنظيم داعش في سرت وصبراتة والجنوب. أما الجماعات المسلحة الأخرى بما فيها المرتبطة بتنظيم القاعدة، فإنها المسيطرة فعليا على الأرض، وتعتبر شريكة في السلطة زمن السلم والحاكمة بأمرها زمن الحرب، ولدى قادتها صلات بمراكز القرار في الداخل والخارج.
وهناك حكومات إقليمية ودولية تعتقد أن علاقات تربطها مع أمراء الحرب قد تكون أجدى بكثير من علاقات مع المسؤولين السياسيين، فأمراء الحرب أثبتوا على الأقل أنهم باقون في مواقعهم، وغير معنيين بالتحولات سواء في المشهد السياسي أو في إطار السلطة التنفيذية، فقد تذهب حكومة وتأتي أخرى، ولكن قائد الميليشيا محافظ على مكانه ومكانته.
كذلك لم يستطع المجتمع الدولي التصدي لمثيري الفتنة ومروجي خطاب الكراهية وعلى رأسهم الصادق الغرياني الذي لا يزال الرئيس الفعلي لدار الإفتاء التابعة للحكومة رغم أن مجلس النواب كان قد عزله من هذا المنصب منذ نوفمبر 2014، ووضعه على قائمة المتورطين في الإرهاب، ومعه عدد من المتطرفين الداعين إلى سفك الدماء وإقصاء المخالفين، والمنادين برفض القرارات الأممية والجهود الدولية، والمطالبين بالسير على منهج حركة طالبان إلى حين إجبار القوى الخارجية على الاعتراف بسلطة الثوار وفق السيناريو الأفغاني، فما حدث في كابول في الخامس عشر من أغسطس الماضي أعطى مجالا واسعا للمتطرفين كي يحلموا بالسيطرة على ليبيا في يوم من الأيام، وكي يستعيدوا تطلعات كانت راودتهم قبل سنوات عندما أرادوا للبلاد أن تكون بيت مال المجاهدين وملجأ المهاجرين من أهل الصحوة.
قد يكون على المجتمع الدولي أن يعيد ترتيب أولوياته في ليبيا، بحيث يضع في حسبانه أن الحل الحقيقي لن يتحقق إلا في حالة حل الميليشيات وجمع سلاحها وتوحيد المؤسسة العسكرية وتحقيق المصالحة الشاملة تحت غطاء الدولة ذات السيادة، وأن أية انتخابات رئاسية قبل ذلك ليست سوى مضيعة للوقت، وهي لا تخرج عن دائرة العبث، وإذا كان هناك إصرار على تنظيمها فمعنى ذلك أن البعض يريد لها أن تكون منطلقا لتقسيم البلاد ليس إلا.
كما على المجتمع الدولي أن يعترف بفشله في ليبيا، وأن يكفّ عن تصدير الأوهام، فمنذ أكثر من عام ونحن نتحدث عن الرابع والعشرين من ديسمبر 2021 كمحطة لتتويج مشروع الحل السياسي، وكفرصة لإعادة تأسيس الدولة الليبية بالتزامن مع الذكرى السبعين لاستقلالها، ولكن لا شيء من ذلك حدث. هناك بالطبع فريق منتصر بقدرته على عرقلة الاستحقاق، وبالمقابل هناك فريق أكبر يواجه هزيمة نكراء بعجزه عن قراءة الواقع الليبي قراءة صحيحة يستلهم منها حلولا جدية، لا وعودا وهمية.