ليبيا ملف أمني وسياسي واقتصادي لمصر
محمد أبو الفضل
تمثل ليبيا أهمية استراتيجية كبيرة لمصر، فهي الأكثر ارتباطا اجتماعيا دون دول الجوار الأخرى، بما يتجاوز أحكام الجغرافيا السياسية التقليدية ولم تُهمل أزمتها منذ اندلاعها، لكنها تعاملت معها بحساسية مفرطة كبّلت تحركاتها أحيانا، وفرضت عليها حسابات جعلتها تتعامل معها من منظور حماية الأمن القومي المباشر من خلال التركيز على التطورات والتفاعلات في منطقة شرق ليبيا القريبة من حدودها.
انتبهت تركيا إلى هذه المعادلة ووظفتها بنجاح في تكريس وجودها في العاصمة طرابلس ومنطقة غرب ليبيا، وهو أكبر تحدّ تواجهه مصر الآن في أزمة زاد فيها عدد اللاعبين بصورة كبيرة، وعليها التوفيق بين تناقضات الداخل وتشابكات الأطراف الخارجية، خاصة أن تركيا لا تزال الرقم الصعب، فقد جاءت لتبقى زمنا طويلا في ليبيا وتستعيد أمجادا، ما يؤثر على مصالح مصر الأمنية والسياسية والاقتصادية.
تبدأ معركة مصر الحقيقية من التفاهم مع القيادة الليبية على العودة إلى توحيد المؤسستين العسكرية والأمنية كضمانتين لتوفير درجة من الأمن النظامي في البلاد
بدأت القاهرة تضبط بوصلتها على الأرض في ليبيا مؤخرا، وتتسع مروحتها السياسية لتستوعب جميع القوى من الشرق ومن الغرب والجنوب، وتنفتح على جهات محسوبة على التيار الإسلامي، اعتبرتها سابقا من المحرمات، بحكم علاقته الوطيدة بقوى متطرفة وإرهابية سببت إزعاجا لمصر.
تلوح في الأفق فرصة جيّدة مع انتخاب قيادة جديدة في ليبيا، وبصرف النظر عن مدى التوافق السياسي، فقد صحّحت القاهرة رؤيتها واستقبلتها بصورة إيجابية، انعكست في فحوى الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الأربعاء، مع كل من محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي، وعبدالحميد الدبيبة رئيس الحكومة.
اعتبر السيسي اختيار القيادة الجديدة “بداية عهد تعمل فيه كافة مؤسسات الدولة الليبية بانسجام وبشكل موحد، يُعلّي المصلحة الوطنية وينهي الانقسام الذي كان أحد معوقات المرحلة الماضية، وعانت منه ليبيا وشعبها ودول الجوار”، مؤكدا على “مواصلة تقديم الدعم والمساندة على الأصعدة الاقتصادية والأمنية والعسكرية”.
يستكمل هذا التوجه التغيّر الحاصل في الرؤية المصرية، والتي لم تعد تتقيد بحصر نظرتها في منطقة الشرق الليبي، وتنظيفه من القوى المتطرفة كضمان للاستقرار. فقد أثبتت التجربة أن استهداف الأمن المصري لا يأتي من الشرق فقط في ظل الحدود الممتدة بين البلدين على نحو 1200 كيلومتر.
تسرّبت عناصر إرهابية من الغرب والجنوب أيضا، ولم تعد الضربات الخاطفة على بؤر تضم متشددين في الشرق ذات جدوى كبيرة لمصر، لأن هروبها إلى مناطق أخرى بعيدة لا يعني استبعاد عودتها أو تهديد مصالح مصر في ليبيا عموما.
وانقلب الوقوف خلف الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر إلى أزمة في بعض الأوقات، لأن خصوم مصر استغلوا ذلك وشككوا في حرصها على التوصل إلى تسوية سياسية عادلة، بل وضعت أحيانا في سلة من تريد حكما عسكريا في ليبيا.
ربما تطرب القيادة المصرية لنموذج الحكم العسكري، لأنه أكثر انضباطا وحماية لوحدة الدول العربية، وفي حالة ليبيا الممزقة بين قوى عديدة لن تستطيع جهة التصدي للميليشيات والمرتزقة والحفاظ على تماسك الدولة أكثر منهم، بسبب الدور المهمّ للجيش في المنظومة الليبية الوطنية.
أفضت تجربة السنوات الخمس الماضية التي رأس فيها فايز السراج حكومة الوفاق الوطني إلى دروس كثيرة لمصر، أبرزها أن ليبيا ملف تتوافر فيه كل المكونات التي لا تصلح معه السياسات الخاطفة والنظرة الضيقة والتوجهات القائمة على ردود الفعل.
أكد تعامل مصر أنها دولة حاضرة في جميع مراحل الأزمة وملمّة بتفاصيلها، وعلى علاقة بالقوى الإقليمية والدولية المنخرطة فيها، لكنها افتقدت إلى رؤية استراتيجية شاملة تمكنها من تبني تصرفات تعزز أهمية ليبيا كدولة عربية وأفريقية وجوار مباشر، فكل ما يحدث فيها من تقلبات وصراعات له ارتدادات خطيرة على مصر.
انغمست الأدوات المتعددة التي استخدمتها القاهرة في دروب ودهاليز وتفاصيل دقيقة، ولم تمكنها المبادرات التي طرحتها من توجيه الأزمة لطريق يريحها، وبدت للبعض كأنها مرتاحة لمسألة إثبات الوجود وتجنب الخسائر أكثر من الحصول على نفوذ.
جاء ذلك في وقت أثبت فيه آخرون قدرتهم على تغيير الدفة لصالحهم، لأن مصر ظل يراودها أن ليبيا مستنقع يصعب الخروج منه إذا دخلته عسكريا، واكتفت بدبلوماسية التلويح بالتدخل ورسمت الخط الأحمر في سرت والجفرة العام الماضي، والذي لم يتم اختراقه وكشف عن عدم استبعاد الحل العسكري تماما، لكنه سهّل مهمة تركيا لزيادة نفوذها في غرب ليبيا، وكرّس فكرة أن مصر تكتفي بحماية مصالحها في الشرق.
رغم أهمية الخط الأحمر وما أكده الرئيس السيسي من صرامة، ثم عدم خرقه من جهة تركيا وقوات حكومة الوفاق وتقبل المجتمع الدولي له، إلا أن الخطوة حوت في فحواها عدم اكتراث القاهرة بالغرب، وهي إشارة عزفت عليها مبكرا أنقرة، واستثمرت فيها سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وتحولت إلى صاحبة يد طولى في طرابلس.
تحتاج مصر إلى رؤية واسعة للتعامل مع الأوضاع الراهنة، وتعاون كبير مع الطبقة السياسية التي تدير المرحلة الانتقالية، إلى حين إجراء انتخابات في 24 ديسمبر المقبل، حتى تصل ليبيا إلى وضع دائم ومستقر قبل أن تزداد الأمور انفلاتا.
مهما كانت نوايا المنفي والدبيبة للعبور من النفق المظلم، من الضروري أن تكون مصر أكثر جاهزية لمجابهة التحديات، وقادرة على مناطحة تركيا والحد من نفوذها المتنامي في غرب ليبيا الذي ينتعش مع الفوضى، لذلك لن تترك الشرق أو يبارح عينيها عمقه البحري والبري الغنيين بالنفط والغاز، ما يقلل من فرص حصول مصر على جزء معتبر من كعكة إعادة الإعمار.
اعتبر السيسي اختيار القيادة الجديدة “بداية عهد تعمل فيه كافة مؤسسات الدولة الليبية بانسجام وبشكل موحد، يُعلّي المصلحة الوطنية وينهي الانقسام
تبدأ معركة مصر الحقيقية من التفاهم مع القيادة الليبية على العودة إلى توحيد المؤسستين العسكرية والأمنية كضمانتين لتوفير درجة من الأمن النظامي في البلاد، وصولا إلى حل أزمة الميليشيات المسلحة والمرتزقة والعصابات المسلحة، والتي تمثل ركيزة لإجراء انتخابات في أجواء آمنة، وتسهل عملية الالتزام بالنتائج.
لم تعد القاهرة تملك ترف الانتظار للفعل التركي ثم تتعقبه، عليها أن تمسك بزمام المبادرة وتعيد ترتيب أوراقها، بعد أن بدأت في زيادة وتيرة الانفتاح على قوى سياسية وقبلية من مناطق مختلفة، وانخرطت في خطوات كثيرة قامت بها بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، خاصة اللجان الفنية والعسكرية والاقتصادية والدستورية.
تمثل اللجان الثلاث قاعدة رئيسية لعمل اللجنة السياسية التي شغلت اهتمام قوى كثيرة، وكانت مصر ممثلة في جميع مراحلها، لكن درجة تأثيرها بدت أقل من المتوقع، بحكم التشابك الذي ينتاب عمل اللجنة وكثافة الصراعات التي تحيط بها، لذلك ركّزت على الأمور الفنية ومن مهمتها ترسيم خارطة طريق سياسية للمستقبل.