ليبيا وطاحونة الموقف الأممي المعتاد
الدبلوماسية الأميركية المخضرمة والمنحدرة من أصول لبنانية، ستيفاني خوري، التي تتولى منصب نائب الممثل الخاص للشؤون السياسية والقائم بأعمال رئيس بعثة الأمم المتحدة لدى ليبيا، استندت إلى طاحونة الشيء المعتاد، لتقول إن البعثة تبقى ملتزمة بمساندة الليبيين على تجنيب البلاد مخاطر الانقسام والعنف وهدر الموارد، وذلك من خلال تيسير عملية سياسية شاملة، يملكها ويقودها الليبيون أنفسهم، بمن فيهم النساء والشباب ومختلف المكونات، وهي تعمل على دعم إجراء انتخابات وطنية شاملة حرة ونزيهة لإعادة الشرعية للمؤسسات الليبية، وسوف تواصل دعم عملية مصالحة وطنية شاملة مع كل الشركاء، والعمل مع الليبيين على التنفيذ الكامل والمستدام لاتفاق وقف إطلاق النار، ومعالجة انتشار الأسلحة، وتحسين وضع حقوق الإنسان وسيادة القانون، وباعتبار أن الشعب الليبي عانى ما يكفي من غياب الاستقرار والتنمية، واليوم يواجه ظروفًا معيشية صعبة، وحان الوقت لوضع حد لهذه المعاناة، فعلى الليبيين العمل معا ومع البعثة من أجل وحدة وسيادة واستقرار وازدهار ليبيا.
كلام لا يخرج عن دائرة الإنشاء المعتادة التي تخفي وراءها حقائق لا أحد يرغب في الوقوف عندها، والتي تكررت منذ العام 2011 بأشكال مختلفة، وتحولت إلى علكة في أفواه المتداخلين في الأزمة من الأطراف الإقليمية والدولية، ومن القوى الداخلية التي لا تتوقف عن بيع الكلام في سوق الأوهام، والتي احترفت الضحك على الذقون بينما الشعب مأزوم ومحروم ومطحون فوق أرضه الخصبة والثرية بالخيرات.
منذ عام 2011 تولى إدارة الموقف الأممي من الملف الليبي عدد مهم من الدبلوماسيين وأخصائيي إطفاء الحرائق الدوليين، بدءا من الأردني عبدالإله الخطيب وصولا إلى خوري، ومرورا بالبريطاني إيان مارتن، واللبناني طارق متري، والإسباني برناردينو ليون، والألماني مارتن كوبلر، واللبناني الثاني غسان سلامة، والأميركية الأولى ستيفاني ويليامز، والسلوفاكي يان كوبيتش، ثم العودة إلى ويليامز، فتعيين الأفريقي الوحيد وهو السنغالي عبدالله باتيلي الذي علق عليه الليبيون آمالا عريضة لينتهي به المطاف كسابقيه مهزوما مكسور الوجدان.
قال غسان سلامة الذي كان استقال من منصبه في بداية مارس 2020 إن في ليبيا “طبقة سياسية لديها مستوى عال من الفساد ومن التقاتل على ‘الكيكة’، وإنها لا تهتم بمواطنيها التعساء الفقراء في بلد غني”، واعتبر أن “الكثيرين متمسكون بمناصبهم لأنها تسمح لهم بنهب الثروة، وأنهم يستولون على المال العام ثم يهربونه للخارج، وأن الخلاف الحقيقي بين الليبيين هو على الثروة وليس تنازعا بين الأيديولوجيات”، وروى كيف كان شاهدا على الفساد بعينية، وكيف أن مليونيرا جديدا يظهر كل يوم في ليبيا، في إشارة واضحة إلى المحسوبية التي هيمنت على مراكز القرار من خلال سلطة الميليشيات وقوة شبكات المصالح الظاهرة والمتخفية والمرتبطة بالأطراف الإقليمية والدولية المتمسكة بعقلية الغنيمة في التعامل مع البلد المنهك.
الدبلوماسية الأميركية ستيفاني ويليامز التي تولت مهمة رئيسة البعثة الأممية بالوكالة، ثم المستشارة الخاصة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا، أكدت ما هو أفضح وأفظع، عندما قالت إن “النخبة الحاكمة في ليبيا، تميل نحو مقايضة سيادة بلادها بثمن بخس”، معتبرة أن “الدول المتدخلة وجدت الباب مفتوحا أمامها بدعوة من قِبل الأطراف الليبية المتصارعة”، كما أنها أول من استخدم “الكائنات المنقرضة” في وصف بعض السياسيين الليبيين، الذين قالت إنهم “متمسكون بالحفاظ على الوضع الراهن الذي يتيح لهم الوصول إلى خزائن الدولة”، معتبرة أنهم “طوروا بمهارة نظام المحسوبية خلال السنوات الماضية”.
وإذا كان غسان سلامة عربيا ولديه خبرة بملفات المنطقة، ويعرف الفاسدين من نظرات عيونهم والحركات اللاإرادية لأصابعهم، فإن ستيفاني الأولى كانت أكثر شخصية أجنبية دخلت في مسامّ المجتمع الليبي وعرفت تفاصيل ما يدور فوق السطح وتحته، وأدركت أن ما حصل قد حصل، وأن لا أمل في حصول عملية إصلاح من داخل منظومة الفاسدين المفسدين التي تسيطر على المشهد العام في البلاد.
عندما أعلن عن تعيين الدبلوماسي السنغالي عبدالله باتيلي على رأس البعثة الأممية، رأى البعض أنه اختيار سليم وقد يكون له أثر إيجابي لاسيما أن الاتحاد الأفريقي الذي تأسس في صورته الحالية بجهود ليبيا وزعيمها القذافي، لديه رؤية متقدمة للحل السياسي والمصالحة، وقد يحقق ما عجزت عنه الأمم المتحدة بخصوص جمع الفرقاء الأساسيين حول طاولة واحدة للحوار الوطني، ولكن بعد 18 شهرا، وجد باتيلي نفسه مدفوعا للاستقالة، وليعلن بصراحة استحالة الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة بسبب “تنافس المجموعات المختلفة على السلطة والسيطرة على ثروة البلاد”، واصفا ليبيا بـ“دولة مافيا”، رابطا قرار استقالته بـ“أنانية القادة الليبيين”، الذين اتهمهم بـ“تسبيق مصالحهم الشخصية على حاجات البلاد”.
والحقيقة أن ما ورد على ألسنة سلامة أو ويليامز أو باتيلي، يتردد في كواليس السياسة الإقليمية والدولية، وهناك ما يشبه الإجماع في دول الجوار والدول الكبرى وفي المنظمات الدولية، ولدى مختلف القوى المتداخلة في الملف الليبي، أن الحل السياسي غير متاح، وأن التعامل مع الفرقاء الليبيين صعب وغير مجدٍ، لاسيما أن هناك مصالح قد تشكلت وفق حسابات وأجندات شخصية وأسرية وجهوية ومناطقية وعقائدية، ثم ارتبطت بخارطة النفوذ العالمي بين القوى المتصارعة على المنطقة ككل، وأصبح كل طرف داخلي يتدثر بغطاء خارجي ليضمن بقاء نفوذه ودوام مصالحه.
وسيكون من الطبيعي، أن ينتظر الليبيون اليوم الذي تعلن فيه ستيفاني خوري مغادرة منصبها، وهي تصرح بكلمات غير بعيدة عما صرح به سابقوها، سواء بخصوص فشل مساعيها أو بخصوص تمسك الفرقاء بعدم التوصل إلى حل سياسي، أو بما يتعلق بالفساد الذي وصل إلى حد طبع الأوراق النقدية وبيعها في الأسواق مقابل العملات الأجنبية، وتكريس حالة الانقسام على مقاس أصحاب المصلحة في الإبقاء عليه.
وأهم ما ستخرج به خوري، هو أن المجتمع الدولي غير جاد في سعيه للخروج بليبيا من النفق، وأن الموضوع متعلق بقوى إقليمية ودولية، لا يهمها راهن الليبيين أو مصيرهم، بقدر ما تهمها مصالحها الإستراتيجية والجيوسياسية التي ترغب في ضمانها مع مصالح شركاتها وأهداف الأفراد المندمجين في منظومة الفساد مع الفاعلين الداخليين، وقد تصل خوري إلى ما وصل إليه الكثيرون من خيبة الأمل في القانون الدولي الذي عادة ما يتم اعتماده في التعجيل بالتخريب مقابل الإبطاء في الإصلاح أو العجز عن تحقيقه أو التآمر لقطع الطريق أمام محاولات إيجاد الحل طالما أنه لا يخدم مصلحة هذا الطرف أو ذاك.