ماذا بقي من النهضة بعد الغنوشي
تعيش حركة النهضة الإسلامية وضعا صعبا مع سجن أبرز قادتها والانسحابات التي طالت عددا آخر إما لتأسيس أحزاب أو يأسا من التغيير من داخل الحركة، والبعض الآخر من باب إيثار السلامة وتجنب الصدام مع الدولة وتكرار تجربة 1990 – 1991.
من المفارقات أن حركة لديها أكثر من نصف قرن من النشاط الدعوي والتنظيمي والسياسي العلني والسري تجد نفسها مهددة بالاضمحلال لمجرد اختفاء قادتها (بدءا من مرحلة الجماعة الإسلامية كوعاء دعوي تجميعي في السبعينات، مرورا بإعلان حركة الاتجاه الإسلامي في يونيو 1981، وصولا إلى تغيير الاسم إلى حركة النهضة في 1988).
لا تمتلك الحركة حضورا دعويا ولا فقهيا في الشارع التونسي. لا يعرف لها خطيب لديه شعبية كبيرة أو يعتبر مرجعا فقهيا وإن كان أغلب الأئمة في المساجد يتبعونها ويوالونها، ولكنه ولاء تنظيمي كمّي وليس ولاء فكريا.
من البداية لم تكن الحركة تخطط للتأثير الديني والدعوي، كان مجرد محطة في اكتساب جسم سياسي احتجاجي بيافطة إسلامية وبهوية مناوئة لليسار الذي كان يسيطر على المشهد السياسي والنقابي. ولدت الحركة مهووسة بمصارعة اليسار والحد من نفوذه لتكون حركة سياسية بالأصل وإن تغلفت أحيانا بمسوح دينية ودعوية، ما جعل خلفيتها/هويتها تتسم بالاضطراب.
خلطت الحركة بين هويات دعوية مختلفة من خلال الاستظلال بمشايخ الزيتونة خاصة في العاصمة تونس لتأمين العمل داخل المساجد، كما وظفت تجارب وأدبيات دعوية إخوانية من مصر وسوريا. وهذا الازدواج حال دون خلق شخصية دعوية قادرة على التأثير في الناس واستقطابهم بخطاب روحي واضح يبقي للحركة مرجعية في صورة أفكار أو شخصيات.
كما لا تملك النهضة حضورا ثقافيا ولا فكريا يمكن أن يغطي على غيابها السياسي فتشتغل عليه وتنشغل به في حال أجبرت على ترك السياسي أو تركته من باب المناورة أو تنويع الخيارات مثلما يطالب قلة من أنصارها حاليا لتجنب مصير إخوان مصر سواء في صدامهم مع الرئيس عبدالفتاح السيسي في الداخل أو من خلال اشتعال الخلافات بين من هربوا إلى الخارج وبين من كانوا مستقرين فيه من ذي قبل كما حصل في لندن وإسطنبول.
وربما تكون حركة النهضة أقل الحركات الإسلامية إنتاجا فكريا لقادتها. باستثناء رئيس الحركة راشد الغنوشي، الذي انشغل بمواضيع الديمقراطية و”تعصير” الإسلام لإقناع الغرب بفكرة نشوء أحزاب إسلامية على شاكلة الأحزاب المسيحية المحافظة في أوروبا، فلا توجد كتابات واضحة للإسلاميين. قد تكون صدرت كتب أو مقالات تجميعية أو تفسيرية لقضايا جزئية في الفقه أو الاقتصاد الإسلامي، لكنها لا تعبّر عن هوية جديدة يمكن الاحتكام إليها للخروج باستنتاجات حول فكر الحركة وإن كانت سلفية تقليدية أم جسما مختلفا.
وبالنتيجة، فإن حضور حركة النهضة وتأثيرها المباشر يرتبطان بوجودها السياسي، وحين يختفي هذا الوجود لاعتبارات أمنية وقضائية بالأساس، فإن الحركة تفقد توازنها كليّا وتكتفي بالانغلاق على نفسها لمعالجة قضايا داخلية تفضي عادة إلى إثارة الخلافات حول مسائل تنظيمية.
تثار التساؤلات الآن حول وزن النهضة سياسيا بعد سجن أغلب قادتها، وهل أنها ستحافظ على دورها الطاغي بعد 2011 وإلى حدود 2021. إلى أيّ مدى لا تزال تحتفظ بقدرتها على التأثير السياسي وهل انعدم أيّ دور لها أم لا تزال تحتفظ ببعض هوامش التحرك.
النهضة حزب سياسي القرار فيه مركزي، وهذا ما يجعل لغياب القيادة دورا أساسيا في تراجع نشاطها وحضورها في المشهد. غياب الغنوشي وبدرجة أقل علي العريض يربك أداء النهضة سياسيا وحزبيا خاصة بعد انسحاب عبدالفتاح مورو من المشهد تحت تأثير غياب الدعم الكافي له في الانتخابات الرئاسية.
يضاف إلى ذلك غياب قيادات الصف الثاني إما بالسجن مثل عبدالكريم الهاروني والعجمي الوريمي أو بالاستقالة وتأسيس حزب مثل عبداللطيف المكي وسمير ديلو، أو الانسحاب في صمت لقيادات أخرى كان لها حضور حركي في ما بعد مثل لطفي زيتون 2011.
كل هذا يفقد النهضة إحدى نقاط قوتها، وهي الحضور السياسي والإعلامي وإدارة الصراعات والحرص على إظهار الحركة كحزب يؤمن بالديمقراطية والتداول على السلطة، وخاصة القدرة على ربط التحالفات، وهذا أمر يتقنه قادة الصف الأول ممّن أمكن لهم قبل 2011 وبعدها بناء علاقات حزبية وأحيانا شخصية مع مكونات مختلفة بما في ذلك مع الدولة العميقة.
عمليا، النهضة تراجعت سياسيا حتى وإن كلفت وجها جديدا للتحدث باسمها فسيكتفي بتسجيل الحضور والإيحاء بأن الحركة ما تزال مفتاحا في المشهد. هي الآن تعيش مشهد ما بعد مواجهة 1990 – 1991 مع بن علي حين اكتفت بإدارة ملفات التنظيم الداخلي. ومن الصعب أن تتخذ قرارا بعقد مؤتمر أو انتخاب قيادة جديدة ضمن صيغة توافقية، فلم يعد لها من القيادات من يقدر على ملء الفراغ والحضور في الواجهة بكاريزما كتلك التي يمتلكها الأمين العام الحالي الوريمي وقدرتها على الطمأنة ومد الجسور مع الآخر.
في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في السادس من أكتوبر القادم لا تمتلك النهضة مرشحها الخاص ليس تعففا، ولكن لغياب المرشح الذي يكون في حجم ووزن عبدالفتاح مورو الذي قدمته في انتخابات 2019 قبل أن تتخلى عنه لصالح فكرة إنجاح شخصية من خارج الحركة حتى لا تتهم النهضة بالسيطرة على السلطة.
خيار النهضة كان دعم ترشيح نجيب الشابي كواجهة لجبهة الخلاص، لكن الأمر لم يتم لقراءة داخل الجبهة بأن حظوظ الشابي ليست وافرة فضلا عن انتقادها لشروط الانتخابات ومناخ الترشيحات، وأيضا لاعتراضات من داخل الحركة على شخصية الشابي بسبب الخلاف الذي نشأ بين الطرفين قبل انتخابات 2011 ما دفع النهضة إلى دعم ترشيح المنصف المرزوقي للرئاسة بدلا من “الحليف التاريخي”.
من الصعب أن تفكر النهضة في دعم عبداللطيف المكي ولو بشكل غير معلن. جمهور النهضة لم ينس له أنه انشق عن الحركة وأسس حزبا جديدا وأنه أخذ معه جزءا من خزانها القيادي. كما أن فرص المكي في الوصول إلى الدور الثاني محدودة، وهي إن فكرت في الدعم فستختار شخصية يمكن أن تقدم ضمانات للنهضة على شاكلة ضمانات الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي.
هامش التحرك الذي تمتلكه الحركة حاليا في مسار الانتخابات هو البحث عمّن يمكن أن تسانده في السباق الرئاسي بلعب ورقة خزانها الانتخابي، الذي يتماسك أكثر في الأزمات ويمكن توجيهه ككتلة. ربما تبحث عن دعم مرشح مثل منذر الزنايدي تثق أنه منافس جدي، ويمكن أن يوفر “الضمانات” التي تبحث عنها، عدا ذلك فهي ستترك لأنصارها حرية التصرف بمنح التزكيات لأيّ مرشح أرادوا خاصة في ظل تعدد المرشحين القريبين من الحركة ومن يغازلون جمهورها.
وما يزال مبكرا الحديث عمّن يمكن أن تدعمه النهضة في الانتخابات من الآن، لكن بالتأكيد فهي ستسعى لتوظيف ورقة الخزان الانتخابي في دعم من ترى أنه خصم يمكن أن يقف بوجه قيس سعيد الذي كانت دعت إلى انتخابه بحماس كبير في الدور الثاني من انتخابات 2019 بوجه “حليفها” نبيل القروي، في موقف يظهر ازدواجية مواقف الحركة وصعوبة توقع قرارها.