ماذا وراء الإستنفار العسكري المصري على الحدود الليبية؟
رفعت القوات المسلحة المصرية من جاهزيتها العسكرية في المنطقة الغربية المتاخمة للحدود مع ليبيا، للتأكيد على التصدي لأي جهة تحاول خرق الحدود الجغرافية التي رسمتها مصر لأمنها الإقليمي، وسد الثغرات أمام أي رغبة في تحويل الصحاري الشاسعة التي تشكل ثلث مساحة البلاد إلى بؤرة جديدة لتهديد الأمن القومي، في ظل متغيرات متسارعة في الجارة ليبيا، بما يخدم التعامل السريع مع كل طارئ يدفع إلى فرار آلاف الإرهابيين الذين زج بهم النظام التركي في طرابلس ومنها إلى مناطق مختلفة، قد تكون الحدود المصرية ضمن أهدافها.
أزعج الاستنفار المصري الأخير جهات كثيرة، وبدت القاهرة كأنها تستعد للتخلي عن خطتها في التعامل مع الأزمة الليبية، والانتقال من التعامل السياسي إلى التدخل العسكري؛ فمع سخونة التطورات، بدأت مصر تتخلى عن حذرها الفائض، وجاء اجتماع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع مجلس الأمن القومي الثلاثاء، من أجل مناقشة الأزمة الليبية، ليوحي بأن الخيار العسكري قد يكون قريبا، إذا فشل إعلان القاهرة في فتح الطرق أمام الحل السياسي.
تركت زيارة رئيس الأركان المصري، الفريق محمد فريد، للمنطقة الغربية الأربعاء انطباعا بأن التدخل العسكري المصري المباشر في ليبيا قد يكون قريبا، إذا تمادى النظام التركي في ممارساته العسكرية، ودفع المرتزقة إلى المزيد من التقدم، خاصة أن فريد شدد على جاهزية الجيش المصري، واستعداده القتالي لمواجهة كافة المخاطر والتحديات.
تبذل القاهرة جهدا للتوصل إلى حل سياسي في ليبيا، وتخشى تفاقم الأوضاع العسكرية على الأرض، وفي الحالتين سيكون هناك أكثر من عشرة آلاف من المرتزقة الموالين لتركيا والقادمين من الأراضي السورية يبحثون عن أماكن بديلة لهم، ما يجعل الحدود المصرية هدفا لهم، لأنها كانت بالفعل مهددة سابقا من خلال تسلل متطرفين، ارتكبوا عمليات إرهابية، حتى تمكنت أجهزة الأمن من سد الكثير من المنافذ على طول 1200 كيلومتر، وهي مساحة كبيرة من الصعب إحكام السيطرة عليها تماما.
تدرك القاهرة أن طبيعة عمل الإرهابيين تجعلهم يميلون إلى التمدد، وأن الموجودين في ليبيا سيكونون بحاجة إلى الانتشار داخل دول الجوار الليبي، إذا فرض عليهم الواقع الجديد خيارات ضيقة لا تمكنهم من الاستقرار في ليبيا.
أوضح مستشار كلية القادة والأركان (تابعة للجيش)، اللواء محمد الشهاوي، أن الجيش المصري استدعى قوات إضافية من المنطقة الشمالية العسكرية لتدعيم المنطقة الغربية وتكثيف التواجد العسكري على الحدود، عقب تقدم الميليشيات المدعومة من النظام التركي إلى تخوم مدينة سرت الليبية، وأن مصر أضحت تدرك أن الوضع يزداد خطورة على الجانب الغربي، بما يستلزم إحداث تغييرات في التكتيكات العسكرية التأمينية على طول الحدود.
وبحسب ما نشره موقع “ديفينس بلوغ” المعني بالشؤون الأمنية، فإن القوات المسلحة المصرية نشرت دبابات أبرامز القتالية على الحدود مع ليبيا، ونشر الصحافي ومحلل الطيران العسكري باباك تغافي على حسابه في تويتر مقطع فيديو يظهر ما قال إنه قافلة عسكرية مصرية مع 18 دبابة قتال رئيسية من طراز M1A2 أبرامز، بالقرب من الحدود مع ليبيا.
وأضاف الشهاوي، أن القوات الجوية بالتعاون مع قوات حرس الحدود تمكنت خلال العامين الماضيين من تدمير أكثر من ألفي سيارة دفع رباعي محملة بأسلحة وذخائر ومخدرات، وأخذ هذا الاتجاه بعداً حيوياً في الحرب المصرية على الإرهاب، وكان من الأسباب المباشرة في زيادة التنسيق مع قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، ومدها بالمعلومات للتعامل مع الخلايا الإرهابية في الشرق الليبي.
ساعد تبني الجيش المصري خطة أمنية جديدة منذ ثلاث سنوات في سد الثغرات على الحدود وتأكيد الاستعدادات المستمرة للتعامل مع التهديدات القادمة من ليبيا، ومنع تكرار تنفيذ حوادث إرهابية، بينها عملية الفرافرة، واستهداف كنائس وحافلات للمسيحيين، وهو ما يؤكد أن ضبط الحدود كان خطوة أولى، تخفف الضغوط عند أي تحرك عسكري بعيد على هذه الجبهة.
وكشف البعض من الخبراء أن الجيش المصري استحدث خرائط للأوكار الإرهابية للتعرف على تمركزاتها الجديدة على الأراضي المصرية أو المناطق القريبة من الحدود داخل ليبيا، والتعرف على الخلفية التنظيمية التي تنتمي إليها والجهات الدولية التي تدعمها وتمولها ماديا ومعلوماتيا، ولعل هذا الجهد نجح في القبض على الإرهابي هشام عشماوي الذي تسلمته القاهرة من الجيش الليبي في مايو من العام الماضي، وقبل ذلك وجه الطيران المصري سلسلة من الغارات على بؤر إرهابية وعلى طول الحدود القريبة من مصر.
وشنت القوات الجوية المصرية عددا من الغارات الجوية عام 2015 على مواقع لتنظيم داعش في مدينة سرت، بعد ذبح 21 مصريا من الأقباط على يد التنظيم، ثم كررت الغارات في عام 2017 على مدينة درنة بعد تورط عناصر تقيم فيها في شن هجموم على عشرات الأقباط كانوا يستقلون حافلة في طريقهم إلى دير الأنبا صموئيل في محافظة المنيا جنوبي مصر.
وعملت القوات المسلحة المصرية على توسيع القاعدة العسكرية في “سيدي براني” قرب الحدود مع ليبيا، والتي أعيد تدشينها باسم قاعدة “محمد نجيب”، وهي أكبر قاعدة عسكرية في قارة أفريقيا والشرق الأوسط، في محافظة مرسى مطروح، كما أن العملية الشاملة “سيناء 2018” شملت أيضاً الاتجاه الإستراتيجي الغربي مع ليبيا، ونهاية بمناورات “قادر 2020” التي جرت على امتداد الحدود الغربية وساحل البحر المتوسط.
رفعت قوات حرس الحدود درجات الاستعداد القتالي للتشكيلات وقواعدها العسكرية وظهر ذلك واضحاً من خلال تنفيذ خطة الفتح الإستراتيجي لعناصر المنطقة الغربية على كافة المحاور والاتجاهات.
ما جعل الأمور أكثر تعقيدا أمام العناصر الإرهابية أنه جرى تضييق الخناق على المهربين في منطقة المثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا، ومنع تحركهم عبر نقاط جبلية في منطقة العوينات (جنوب غرب مصر)، وهي منطقة وعرة كانت تتسلل منها بعض العناصر المتطرفة لتدخل منها إلى مصر وتنفّذ عمليات إرهابية.
وأكد الشهاوي، الذي شغل منصب مدير معهد الحرب الكيميائية بالجيش المصري، أنه جرى التعامل مع تلك التهديدات من خلال استحداث أساليب تكنولوجية متطورة لمراقبة الحدود المترامية واستخدام تقنية البصمة الحرارية التي ترصد تحركات الأشخاص الذين يتم تحديد أماكن تواجدهم، إلى جانب الاعتماد على تقنيات البصمة الصوتية لتسجيل اتصالات العناصر الإرهابية ببعضها البعض، وتكثيف التواجد العسكري البشري على الحدود.
استطاع الجيش المصري أن يمنع الإرهابيين من محاولة اتخاذ مناطق ارتكاز لهم على الحدود مع ليبيا، وقامت المنطقة الغربية العسكرية بتطهير الجيوب والتعامل أولا بأول مع محاولات التمركز داخل الصحاري التي تشكل ظهيراً للمحافظات المصرية الجنوبية، ما يجعل الحديث عن وصول تعزيزات إلى الحدود في الوقت الحالي بمثابة استنفار عالي المستوى.
وأوضح النائب البرلماني والمستشار بأكاديمية ناصر العسكرية (تابعة للجيش)، اللواء حمدي بخيت، أن الجيش المصري يرفض أن يجري فرض أمر واقع في الصحراء الغربية، بعد أن تحولت التهديدات المباشرة للأمن القومي على الحدود الغربية من أخطار سياسية وإرهابية إلى تهديدات عسكرية مباشرة من خلال التدخل العسكري التركي.
وأشار إلى أنه “أصبح من الضروري أن تكون هناك استعدادات كاملة وعدم ترك أي مجال للصدفة، وأن الأوضاع الأمنية تزداد خطورة داخل الأراضي الليبية، بما يؤدي إلى أن يكون الاتجاه الإستراتيجي الشمالي الغربي أكثر سخونة، وأن الاستعداد لا بد أن يجري بشكل أكبر وأوسع عبر مختلف المجالات العسكرية، براً وجواً وبحراً”.
ولفت الخبير العسكري إلى أن “الجيش المصري كان باستطاعته تأمين الاتجاه الغربي والتعامل مع التهديدات المختلفة، ومنها تهريب الأسلحة والمخدرات والبضائع وتسلل الإرهابيين، بالقوات التي تواجدت هناك طيلة السنوات الماضية، لكن حينما يتطور الأمر إلى وجود مرتزقة يشكلون ما يوازي عدد أفراد لواء من المشاة إلى جانب عدد من الميليشيات المسلحة الداعمة لحكومة الوفاق فإن الأمر يتطلب تكثيف العناصر البشرية والمعدات العسكرية التي قد تستدعى في أي لحظة لمواجهة إمكانية تسلل هؤلاء، والتقدم كثيرا في العمق الليبي لمطاردتهم”.
لا يعني ذلك أن تلك الاستعدادات تستهدف التدخل عسكريا مباشرة في الأزمة الليبية، وأن ذلك لن يحدث إلا إذا كان هناك تهديد مباشر للمصالح المصرية، أو أن القيادة السياسية رأت ضرورة ملحة للتدخل من أجل وقف تمدد العناصر الإرهابية.
يرى عسكريون أن تكثيف الحضور على الحدود يبعث برسالة شديدة اللهجة لأنقرة تفيد بأنها لن تستطيع أن تنقل عناصرها إلى الداخل المصري، وتذكيرها بإحباط المخططات التي جرت خلال السنوات الماضية بشأن توطين ميليشيات سوريا على أراضي سيناء، مثلما تحدث الرئيس رجب طيب أردوغان عن ذلك الأمر صراحة عام 2017.
تدرك أنقرة أن الجيش المصري لديه سيطرة كاملة على الحدود، وأي تفكير في مساعدة متطرفين على التسلل سيجري التعامل معه فوراً بالطريقة المناسبة، ولعل منع تقدم قوات المرتزقة إلى سرت حمل رسالة واضحة، مفادها أن هذه المنطقة خط أحمر، وتدخل ضمن الأمن القومي المصري، ولن يسمح بتكرار انتشار الإرهابيين فيها كما حدث من قبل.
تلقى الجيش المصري، مطلع العام الجاري، تعليمات من القيادة السياسية بتعزيز وجوده في الغرب بالقرب من الحدود مع ليبيا خوفاً من أن تحاول عناصر إرهابية التسلل إلى البلاد.
وقالت الرئاسة المصرية، “إن الرئيس عبدالفتاح السيسي دعا القوات المسلحة إلى إبداء أقصى استعداد قتالي لحماية الأمن القومي، وتعزيز الجهود للسيطرة على الحدود وملاحقة العناصر الإرهابية، خاصة في شمال سيناء والمنطقة الغربية”.
وأكد الخبير الإستراتيجي، اللواء عبدالمنعم كاطو، أن القاهرة تنظر إلى الموقف في ليبيا وتأثيراته على الحدود من عدة اتجاهات، أولها استمرار تأزم الأوضاع الأمنية وعدم تمكن أي قوة من إحداث السيطرة على الأوضاع، ما يعني تدمير الداخل الليبي، وستكون على الحدود المصرية دولة فاشلة على المدى البعيد، قد تصبح خاضعة لسيطرة الميليشيات الإرهابية.
وأضاف أن “الاتجاه الثاني، وهو إمكانية وصول المرتزقة الموالين لأنقرة إلى الحدود المصرية، أمر صعب الحدوث، لأن الجيش الوطني الليبي يسيطر على شرق وجنوب ووسط ليبيا، لكن يجري وضع هذا الخيار في الاعتبار، لأن ذلك سوف يعني تأثر الأمن القومي بشكل مباشر”.
وأوضح أن الاتجاه الثالث يرتبط بالهيمنة التركية على بعض الثروات الليبية، ما يؤدي إلى تهديد مصالح مصر المتعددة، وهي الزاوية التي تشكل نقطة قطع للعلاقات القوية بين الجيش المصري والقبائل الليبية، والتي لها علاقات وطيدة بالدولة المصرية، ولديها رغبة في أن يكون هناك تدخل عسكري من جانبها لوقف هذا التمدد، بل إنها تعًول كثيراً على هذا الدور في الوقت الحالي استباقاً لأي تطورات سلبية جديدة تحدث على أرض الواقع.
وشدد على أن مصر ترى في الاتجاهات الثلاثة خطراً يجعلها تفكر كثيراً في التدخل عسكرياً، لكنها تترك المجال أمام استنفاد جميع الحلول السياسية، بعد إعلان القاهرة لحل الأزمة الليبية، وهي تسير حاليا في طريقين متوازيين، الأول: تكثيف الاتصالات الدولية لضمان نجاح المبادرة، والثاني: حشد القوات العسكرية على الحدود وتدريبها بشكل جيد بما يؤدي إلى تأمين الأمن القومي، والاستعداد لأي تدخل حال اقتضت الضرورة.
وذهب البعض من المراقبين إلى التأكيد على أن القوات المسلحة ترى أهمية التكثيف العسكري الراهن على الحدود لاستعراض القوة والجاهزية، باعتبار أنها ضمن أقوى عشرة جيوش على مستوى العالم، وستكون أكثر قدرة في التعامل مع أي خطر يأتي إليها بما تتمتع به من تفوق نظامي إستراتيجي يرتبط بدراسة المواقع الجغرافية التي تتواجد فيها، بعكس العناصر الإرهابية التي تفتقر للخبرات اللازمة في الحروب المفتوحة.
الأوبزرفر العربي