ماذا يريد أردوغان من قيس سعيد؟
الحبيب الأسود
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هاجم التدابير الاستثنائية للرئيس التونسي قيس سعيد وآخرها قرار حلّ البرلمان، معتبرا ما يجري في تونس إساءة للديمقراطية وضربة لإرادة الشعب التونسي.
أردوغان أورد ذلك في بيان صحفي رئاسي موجّه، وليس في تصريح عابر لوسائل الإعلام، وهو ما يعني أنه كان مهتما بما يجري في تونس ويتابع حيثياته، وأنه كلّف فريقا متخصصا قام ببلورة الموقف وصياغة النص واختيار المفردات.
أراد أردوغان للبيان أن يكون رسالة متعددة الأبعاد والأهداف: دعم لحركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي في داخل تونس وطمأنة لقوى الإسلام السياسي في المنطقة والعالم على أنه لم يتخلّ عن دوره وموقعه كحاضن للإخوان، وتحريض مباشر لواشنطن والغرب الأوروبي على الرئيس قيس سعيّد، مع محاولة للإيهام بحرص الديمقراطية التركية على تحصين نظيراتها بالمنطقة رغم أنه تم وأدها بعد ما سمّي بالانقلاب الفاشل في أغسطس 2016.
رغم هزيمته في مواجهته مع تحالف الاعتدال العربي وتراجعه، ولو ظاهريا، عن مواقفه العنجهية السابقة، وذهابه إلى أبوظبي وسعيه إلى فتح جسور للتواصل مع الرياض والقاهرة، عاد أردوغان إلى عادته السابقة بالتدخل في شؤون الدول العربية من بوابة تونس، وذلك ضمن سياق تحالفه القائم مع الإخوان كتنظيم وجماعة وعقيدة، ولاسيما أن حركة النهضة تعتبر حليفه الأبرز في البلاد، ولها مع نظامه حسابات معقدة ومصالح واسعة، كما لديه علاقة شخصية مع راشد الغنوشي، ولعل اللقاء الذي جمع بينهما في إسطنبول في الحادي عشر من يناير 2020 هو الذي فتح أبواب جهنم على زعيم إخوان تونس بصفته رئيسا لمجلس النواب يحاول المنافسة على السلطة وتجاذب إدارة العلاقات الدبلوماسية مع الرئيس قيس سعيد.
وكان اللقاء قد تم بعد أيام قليلة من الزيارة العاجلة والمفاجئة التي أداها أردوغان إلى تونس في الخامس والعشرين من ديسمبر 2019، وعرض خلالها على الرئيس قيس سعيد مقترحا بالسماح للقوات التركية باستعمال أراضي الجنوب التونسي لنقل الأسلحة والمرتزقة إلى الداخل الليبي في سياق الحرب الأهلية التي كانت أنقرة قد دخلتها لمساندة حكومة الميليشيات في طرابلس في مواجهة قوات خليفة حفتر التي كانت آنذاك تسيطر على جزء مهم من المناطق المتاخمة للحدود المشتركة مع تونس بما فيها قاعدة الوطية الجوية التي تعتبر أكبر قاعدة من نوعها في ليبيا والمنطقة.
رفض الرئيس التونسي مقترحات نظيره التركي بالكثير من اللباقة، وخلال المؤتمر الصحافي المشترك، أعرب أردوغان عن خيبة أمله ببعض الإيحاءات عندما قال “بدأت الآن أشتم رائحة دخان، يبدو أن هناك مدخنين أيضا في تونس، وأنا في جميع المناسبات أوصي الإخوة بأن يكفوا عن التدخين”، وقد كان واضحا أنه أراد الغمز من قناة مضيفه، لكن قيس سعيد حاول التغطية على ذلك بالقول “شكرا لكم على هذه المشاعر التي أبديتموها، لعلها رائحة الغداء التي تفوح أو رائحة زيت الزيتون من مطبخ تونسي خالص، أتمنى للجميع شهية طيبة”.
كانت تلك الزيارة مناسبة لجس نبض الرئيس التونسي بعد شهرين من تسلمه مقاليد الحكم، ولاسيما أنه قد تحول في تلك الأيام إلى أيقونة لدى الإسلاميين في المنطقة، ورأى البعض في تصريحاته العاطفية النارية خلال حملته الانتخابية وبعد الإعلان عن فوزه بالرئاسة، مؤشرا على إمكانية ضمه إلى التحالف الإقليمي الذي يضم تركيا وقطر وتابعتهما الجزائر بالإضافة إلى تنظيم الإخوان وحلفائه، لكن مواقفه كانت تصبّ في اتجاه مختلف، وهو ما أثار حنق حركة النهضة التي كانت ترغب في تحويل تونس إلى ممر لكل شيء نحو ليبيا كما كانت في العام 2011.
في التاسع عشر من مايو 2021 أعلن عن رسالة تهنئة وجهها راشد الغنوشي إلى فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية بمناسبة نجاح الميليشيات المدعومة بالقوات التركية والمرتزقة السوريين في السيطرة على قاعدة الوطية، وهو ما زاد من حالة الاحتقان داخل البرلمان التونسي، وأدى إلى صراع تحت قبته، كما ارتفع منسوب الغضب لدى الرئيس قيس سعيد الذي أدرك أن هناك مساع جدية لتهميش دوره من قبل الإخوان وحلفائهم في الداخل والخارج، وأن الغنوشي تجاوز حدوده الوظيفية، وأصبح مكشوف النوايا مفضوح الأطماع في محاولته التعدي على صلاحيات رئيس الدولة، واستطاعت زعيمة الحزب الدستوري الحر عبير موسي أن تكشف تلك النوايا والأطماع من خلال مداخلاتها في جلسات المجلس واحتجاجاتها تحت قبته وتحركاتها مع أنصارها في الشارع، وكانت الصوت الذي نادى بضرورة عزل الغنوشي من رئاسة البرلمان لمنعه من الاستمرار في ممارساته الخارجة عن نواميس الدولة وفي مشروعه الانقلابي وفي مساعيه للمزيد من التمكن في مفاصل السلطة والمجتمع.
عندما اتخذ الرئيس قيس سعيد تدابيره الاستثنائية في الخامس والعشرين من يوليو 2021، كان قد وجد بعض التفهم من العواصم الغربية التي تابعت الأوضاع في تونس منذ العام 2011 وأدركت فشل النخبة السياسية التي حكمت البلاد، لكن أنقرة والدوحة والإخوان وبعض اللوبيات في الولايات المتحدة شعروا بالصدمة، ومن هناك بدأوا يتحركون على جميع الأصعدة لإجبار الرئيس على التراجع عن موقفه. استلم الإعلام القطري العابر للدول والقارات الملف ليصبح جزءا من معركته اليومية في المنطقة العربية وأوروبا وأميركا، ودفع بالصحافيين إلى المبادرة بطرح الموضوع في المؤتمرات الصحافية لكبار المسؤولين، وأصبحت قناة الجزيرة الناطق الرسمي باسم معارضي الرئيس قيس سعيد تحت مظلة حركة النهضة، والحاضنة الإعلامية للإخوان والدائرين في فلكهم والمبادرة بالدفع بهم إلى صناعة الأحداث في استعادة ضمنية لمشاهد ما سمي بالربيع العربي، وهو ذات ما يقوم به الإعلام التركي المعبّر عن موقف أردوغان ونظامه وحزبه.
لا شك أن أعداء الرئيس سعيد في الداخل والخارج قد استفادوا من تباطئه في توضيح رؤيته وتنفيذ خطته، حيث انتبهوا إلى ضرورة الاستعانة بصانعي قرار أجانب في الضغط على ساكن قصر قرطاج، خصوصا بعد أن تبين لهم أن الوضع لا يزال مناسبا لاستغلال المساحة الواسعة من حقوق التعبير في البلاد لتجييش الشارع والتشكيك في أهداف الحركة التصحيحية، وأنه من الممكن انتهاز الظرف المالي والاقتصادي لتحريض القوى الخارجية المؤثرة على معاقبة الدولة التونسية بما يزيد من إحراج السلطة وإرهاق الحكومة وتقسيم المجتمع.
عندما تحدث الرئيس سعيد عن القناة الأجنبية التي تكفلت ببث جلسة مجلس النواب الافتراضية، كان يقصد قناة “الجزيرة مباشر” وهو يدرك جيدا أن الموضوع مرتبط بخيارات سلطات الدوحة التي تعتبر قضية حركة النهضة قضيتها، وعندما خرج أردوغان ببيانه المندد يقرر حل البرلمان، لم يكن يتحرك من فراغ، وإنما في إطار حالة تناغم مع بعض صانعي القرار في الولايات المتحدة ممن يخوضون صراعا طاحنا لأجل التمكين للإسلام السياسي، وهم من كانوا وراء مشروع الصحوة منذ سبعينات القرن الماضي، والدفع بالإسلاميين إلى الحروب في أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وسوريا وليبيا وغيرها ضمن سياقات عادت لتتشكل من جديد بشكل واضح وهي المتصلة بحرب المنافسة على زعامة العالم.
وبيان أردوغان يؤكد أن الجلسة البرلمانية كانت بالتنسيق مع جهات خارجية من بينها أنقرة والدوحة، وأن الهدف منها إحراج النظام التونسي والدفع به إلى ارتكاب هفوات يمكن استغلالها في مضايقته، بل وأن ذلك البيان كان جزءا من سيناريو المرحلة الجديدة التي تهدف بالأساس إلى عزل تونس إقليميا ودوليا والتضييق عليها ماليا واقتصاديا عبر قطع الطريق أمام أيّ تفاهمات قد تخوضها مع الدول والمؤسسات المانحة.
لقد أكد الرئيس التونسي أن بلاده ليست إيالة تابعة لأيّ أحد، وأن شعبها حر، ولكن هذا الكلام ليس كافيا، فالأعداء المتربصون يعرفون كيف يخترقون المجتمع بالعديد من الأساليب، وكيف يستغلون حالات الفقر والجهل والمرض لخدمة أغراضهم، وهم يستغلون الخطاب الديني والنفوذ المالي والاقتصادي والإعلامي، ولديهم امتدادات في مراكز صناعة القرار بالخارج، واتصالات مع السفارات ومع منظمات المجتمع الأهلي الأجنبية بما يجعلهم قادرين على عرقلة دواليب الدولة وتأزيم الأوضاع، والمطلوب حاليا هو التعجيل بمحطات الحسم السياسي ولاسيما من حيث تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة يمكن أن تكون في الخامس والعشرين من يوليو القادم لينبثق عنها برلمان جديد وحكومة قادرة على قيادة مرحلة انتقالية جديدة تتم خلالها كتابة الدستور الجديد الذي يعبّر بالفعل عن إرادة التونسيين، وبذلك يتم قطع الطريق أمام مناورات أردوغان ومؤامرات الإخوان ومحاولات تأزيم الأوضاع أكثر مما هي متأزمة في تونس.