ماكرون أمام أكبر معضلة احتجاجية في تاريخ حكمه لفرنسا
"نحن من قطع رأس لويس السادس عشر، يمكننا فعل ذلك مجدداً"
منذ أن تسلمه مقاليد الحكم في فرنسا، واجهت البلاد عدة أزمات لا تزال آثارها حية إلى اليوم، بدأت بأزمة السترات الصفراء عام 2018، وتستمر اليوم مع أزمة قانون التقاعد، فأصبح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع كل خطاب له يشعل الغضب أكثر من أن يقنع الغاضبين بمشاريعه.
بيد أن هذه المرة يبدو الغضب أكبر مما كان الوضع عليه خلال أزمة السترات، فأعداد المتظاهرين في الشوارع بالملايين، وحجم الهوة بين السلطة التنفيذية يكبر أكثر فأكثر، فضلاً عن أن المعسكرات المتنازعة اليوم أوضح بكثير من ذي قبل، بل للدقة هي صراع بين معسكرين؛ حكومة ورئيس مكبلين بأغلبية نيابية ليست قادرة على تمرير القوانين من جهة، وبين شارع متحد من أقصى يساره إلى أقصى يمينه على الرغم من تناقضات توجهاته السياسية.
أمام هذا المشهد، حاول الرئيس الفرنسي في خطابه الأخير إظهار نفسه متقدماً بخطوات على معارضيه، لكن منطق القوة الذي اتبعه لرفع سن التقاعد من خلال تمرير القانون بمسار دستوري عبر المادة 49,3 وليس عبر مسار ديمقراطي من خلال عملية تصويت في البرلمان، يقول إن تقدمه هشّ جداً، فالنقابات العمالية (8 نقابات) التي اتحدت ضده في صورة غير مؤلوفة، اكتسبت قاعدة شعبية ضخمة، مقابل أنه خسر قاعدته الشعبية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأكثريته النيابية في البرلمان، وبالتالي جوهر الأدوات اللازمة لحكم بلد يُتهم رئيسه اليوم من قبل الشارع بأنه رئيس غير شرعي.
منفصل عن الواقع
ذلك الاتهام يرد عليه ماكرون بطريقة يقول معارضوه إنها مبتذلة، وفيها كثير من الابتزاز، عندما يبرر بأن الفرنسيين انتخبوه لولاية ثانية على الرغم من علمهم المسبق ببرنامجه الانتخابي المتضمن مشروع قانون زيادة سن التقاعد سنتين. لكنه بذلك، يثبت اتهامات معارضيه ضده بأنه منفصل عن الواقع، فانتخابه لم يكن عن قناعة ببرنامجه الانتخابي، بل لمنع منافسته من اليمين مارين لوبان من استلام مفاتيح الإليزيه، وهنا هو مدينٌ لملايين الفرنسيين الذين صوتوا له على مضض، لكنه فوّت فرصة المصالحة معهم بعد الشرخ الذي حصل على إثر أزمة السترات الصفر بداية ولايته الأولى بإشعال فتيل أزمة اجتماعية جديدة بداية ولايته الثانية.
هذه الأزمة التي اختار ماكرون معالجتها من منطق العداوة مع الشارع – والتعامل مع المحتجين ككتلة واحدة: يسارية متطرفة يقودها جان لوك ميلانشون، بينما في الواقع يشارك في الاحتجاجات فرنسيون من كل الاتجاهات السياسية – لا شيء يشير إلى أنها ستنتهي قريباً، أو على الأقل أن خطاب الرئيس نجح في طيّ صفحتها، فما زال الشارع والنقابات يسعون لكتابة السطر الأخير فيها مع استحقاق ضخم يقترب وهو عيد العمال في الأول من مايو المقبل.
نحن من قطع رأس لويس السادس عشر
في مايو المقبل، سيكون ماكرون أمام أهم تاريخ في السنة بالنسبة للحركة الاحتجاجية في فرنسا، فهذه المرة سيجتمع خليط غاضب من موظفين ومتقاعدين ونقابيين وحزبيين وحتى طلاب، يتشكل للمرة الثالثة في تاريخ فرنسا، وبعضٌ من هذا الخليط بدأ يرفع هتاف “نحن من قطع رأس لويس السادس عشر، يمكننا فعل ذلك مجدداً!”. هتافٌ لا بد أن أجهزة الاستخبارات الفرنسية تنقله بحرفيته إلى الرئيس، لكن حجم العنف الذي يرد به عناصر الشرطة ضد المتظاهرين يدفع للتساؤل: هل يشاهد الرئيس حقاً هذا العنف عن قرب، وكيف ينحدر أحياناً إلى محاولات قتل بين الطرفين؟
الشهية المفتوحة لهذا العنف، والغضب الذي دفع آلافاً للنزول إلى الشارع بعد خطاب الرئيس مباشرة مساء الاثنين، رسالة واضحة على رفض حشود الغاضبين قلب الصفحة، فهم أمام رئيس عَرض فتح باب الإليزيه للحوار مع معارضي القانون فقط بعد إقراره، في وقت كانوا ينشدون هذا الحوار سابقاً من دون أن يجيبهم أحد في الإليزيه.
واليوم، بقي أمام معارضي القانون فرصة وحيدة، وهي أن يصادق المجلس الدستوري على مقترح ثانٍ قدّم لإجراء استفتاء شعبي حول القانون في 3 مايو المقبل. لكن إلى ذلك الوقت، رقعة النار ستتسع مع تحول مشاهد الحرائق التي تشتعل في شوارع المدن الفرنسية منذ أسابيع إلى ما يشبه مشاهد “العنف الثوري”، فالمتظاهرون باتوا يكثرون من ترديد شعار عمال مناجم الفحم الإنجليز ACAB (كل رجال الشرطة لقطاء – All cops are bastards)، ويطبقون أسلوب “كن ماءً – Be water” المستوحى من حركة الاحتجاجات في هونغ كونغ عام 2019؛ وهذا العنف ليس منظماً هذه المرة ولا يأتي من جماعة واحدة مثلما كانت الحال وقت أزمة السترات الصفر، لذلك خطورته تكمن في عفويّته وبأنه من دون رأس يمكن دعوته إلى طاولة حوار. والأهم من كل ذلك، أن مرتكبيه هم طبقة شابة وواعية جداً، كانت تتساءل طيلة السنوات السابقة من هو إيمانويل ماكرون حقاً، هل هو رئيس يساري، أم يميني، أم يميني متطرف؟ ولم تعرف الإجابة بعد.