ما الذي يؤخر الدعم الخليجي لتونس
أشار تزامن الجولة الخليجية لوزير الخارجية التونسي نبيل عمار مع الاتفاق الذي أبرمته تونس مع الاتحاد الأوروبي إلى حقيقة أن تونس تبحث عن دعم وازن من دول الخليج في مساعيها لتحصيل التمويلات الكافية لإدارة الأزمة الحادة التي تعيشها، والناجمة عن تعقيدات داخلية وخارجية.
وكان وزير الخارجية التونسي صريحا وواضحا خلال استقباله من الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، فقد قال إن بلاده تواجه تحديات مركبة، وإنه يجب دعم الاقتصاد التونسي لمواصلة المسار التصحيحي الذي يقوده الرئيس قيس سعيد.
وربما هذه هي المرة الأولى منذ 25 يوليو 2021، التي يطلب فيها مسؤول تونسي بالتصريح، وليس التلميح، دعما من دولة عربية، على عكس ما سمعناه من تصريحات للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أو التركي رجب طيب أردوغان، اللذين يطلبان وبكل وضوح الدعم والاستثمارات والمشاريع.
هذه نقطة ضعف لدى الرئيس قيس سعيد وحكومته ووزرائه، فالرجل يتعامل مع الوضع الصعب والمعقّد بمنطق التعفف، الذي يطبع شخصه كرجل جامعي يعيش وفق إمكانياته ويتفرغ للعلم والتدريس، ولا يفكر في المال والتجارة.
لكن الأمر مختلف الآن، فالرجل رئيس جمهورية وأمامه وضع معقد اقتصاديا وماليا، ويحتاج إلى تحركات ومطالبات واتصالات ولقاءات، وهذا ما بدا أنه اقتنع به أخيرا، أو تعوّد به بسبب التحديات الكبيرة التي تعيشها البلاد.
وكان التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، بالرغم مما أحاط به من تشكيك واتهامات، دليلا على أن قيس سعيد قرر أن يترك وراءه الطبائع الشخصية والحسابات السياسية، وهو تطوره أكده كذلك الكلام الذي قاله وزير الخارجية التونسي في حضور الشيخ محمد بن زايد.
وكانت الدعوة إلى دعم تونس واقتصادها ومسارها التصحيحي بمثابة قطيعة مع مرحلة السكوت. صحيح أن كلام نبيل عمار كان أمام الشيخ محمد بن زايد، أي أمام الأخ والصديق الذي لم يخف دعمه لمسار قيس سعيد، واستعداد بلاده لمساعدة تونس على الخروج من محنتها. ولكنه كان ضروريا في وقت تسعى فيه تونس لتوظيف كل علاقاتها وإمكانياتها لتحصيل التمويلات اللازمة.
وتراهن تونس على الإمارات، ليس فقط في الاستثمارات، فهذه قائمة وتتطور باستمرار، ولكن من أجل استثمار علاقات أبوظبي الخارجية المتينة مع أوروبا ومع صندوق النقد الدولي لتسهيل المسار التفاوضي الذي شرعت فيه تونس مع الطرفين.
ومن الواضح أن إرسال وزير الخارجية التونسي في هذا التوقيت إلى أبوظبي له دلالة سياسية أكثر منها اقتصادية كما جرى العرف في التعامل مع دول الخليج كداعم اقتصادي. بمعنى طلب الدعم الدبلوماسي الإماراتي لمساعدة تحركات تونس الخارجية في ملف التمويلات وإظهار أنها ليست وحيدة وأن لها سندا، وهو ما يرسل إشارات طمأنة إلى الداخل والخارج معا.
وتعرف تونس أن الإمارات لن تتركها وحدها في مواجهة المشكلات المالية والاقتصادية الراهنة التي تحتاج إلى حلحلة سريعة. لكن الأمر كله مرهون بخطوات تونس في المرحلة القادمة. أولها مدى التزامها بتنفيذ الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، لما سيحمله من إشارات إيجابية عن رغبة تونس في تحسين وضعها وإصلاح اقتصادها.
وهذا الالتزام من شأنه أن يبدد صورة رسمت عن تونس في الفترة الأخيرة، وهي تهربها من الاتفاقيات، ورغبتها في تحصل الدعم المالي من دون التزام بإصلاح الاقتصاد وتطبيق خطط واضحة ورسم أهداف محددة.
صحيح أن هناك تحديات داخلية تعيق أداء الحكومة التونسية وتمنعها من المضي في تنفيذ الإصلاحات، بعضها يتعلق بنفوذ النقابات، والبعض الآخر بحسابات السياسة خاصة بالرئيس قيس سعيد الذي رفع السقف عاليا في مسائل تتعلق بالسيادة الوطنية، وإطلاق توصيفات على الاتفاقيات الخارجية تصورها وكأنها في تناقض مع السيادة الوطنية.
لكن المطلوب الآن استثمار الدفعة الإيجابية للاتفاق مع الاتحاد الأوروبي والمرور إلى الاتفاق مع صندوق النقد، لأنه البوابة الوحيدة لتحصيل الدعم المالي الخارجي بما في ذلك من دول الخليج، التي باتت مقتنعة أن لا جدوى لدعم دول شقيقة من خارج مسار الصندوق بما يعنيه من حرص على توظيف المال في المجالات التي تحتاجها البلاد.
وتحتاج الحكومة التونسية إلى موقف دقيق وواضح من مسار التفاوض مع صندوق النقد لأن مصيرها سيتحدد وفق مآلات هذا المسار. وتكفي الإشارة هنا إلى أن قرض الاتحاد الأوروبي (900 مليون أورو) الذي تضمنته حزمة “الشراكة الشاملة” التي تم إقرارها في لقاء تونس الأحد الماضي مرهون بالاتفاق مع صندوق النقد، وهو ما يعني أن لا قيمة للاتفاق ولا جدوى منه ما لم تتخل تونس عن ترددها تجاه صندوق النقد.
لماذا صندوق النقد، وليس مؤسسات مالية أخرى مثل الصناديق العربية الكثيرة؟
الأمر ليس خاصا بتونس لوحدها، فالأمر يشمل كل الدول التي تريد الحصول على تمويلات.
والسبب واضح؛ هناك مخاوف لدى الكثير من الأصدقاء من أن الأموال يمكن أن تبدد في حل مشاكل الأجور والزيادات والخدمات الإدارية والبروباغندا السياسية والحزبية وإجراء الانتخابات وهذا حصل في المرحلة الماضية، ما جعل المانحين يشترطون الحصول على خطط واضحة لتوظيف تلك الأموال ووجود جهة مراقبة ولها صلاحية وقف أو تأجيل الأقساط، وهذا الدور يمكن أن يقوم به صندوق النقد كجهة مالية دولية تحوز ثقة الجميع.
السؤال الملح الآن: ماذا ستفعل تونس في المرحلة القادمة من أجل كسب ثقة مختلف المتدخلين في الأزمة؟
المطلوب أن تعد خطة عمل واضحة تستجيب لمطالب الصندوق، وهي مطالب قابلة للنقاش والتحسين وتأجيل بعض عناصرها وتوزيعها على مراحل.
وهناك مصادرات مرسومة مسبقا عن عمل الصندوق تجعل مهمته وكأنها تعني آليا رفع الدعم عن المواد الأساسية وإثقال كاهل المواطنين برفع الأسعار وخصخصة الخدمات ورفع الدولة يدها وتسليم الأمور للقطاع الخاص، وهي مصادرات غير واقعية وهدفها عرقلة التغيير أكثر من الحفاظ على “السيادة الوطنية” في بلد بات واقعا تحت ضغط الشعارات والخطاب الشعبوي.
فما الذي يمنع أن تقوم حكومة نجلاء بودن بخطة تقشف جادة تحد من الإنفاق في القطاع الحكومي، أو أن تتولى إصلاح المؤسسات الحكومية المترهلة، والتي ينخرها الفساد والبيروقراطية، ما يجعل الدولة تصرف الملايين سنويا عليها من دون نتائج؟
إن تصويب الأداء الحكومي، وتحسين شروط عمل الشركات الحكومية سيوفر تمويلات إضافية للدولة تستثمرها في توفير مواطن العمل داخل القطاع الحكومي، أو في تشجيع المؤسسات الصغرى والمتوسطة لتكون قادرة على استيعاب أعداد جديدة من طالبي الشغل بعد أن دفع المئات من هذه الشركات إلى الإفلاس خلال جائحة كورونا وما بعدها.
الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد تهدف إلى تحسين أداء الاقتصاد التونسي وقدرته التنافسية واستقطابه للاستثمارات، ووقتها ستأتي الأموال من اتجاهات مختلفة كنتيجة منطقية بدلا من أن تكون في شكل هبات أو قروض غير مضمونة، بشكل يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي بدل تحقيق الانفراجة التي تأملها البلاد.
حين تقطع تونس خطوات فعلية في الإصلاحات الجيدة وبإشراف صندوق النقد ومتابعته، فإن الاستثمارات الخليجية ستأتي وتساهم في تحسين شروط حياة التونسيين، وهو ما يعني أن الأمر لا علاقة له بمواقف مسبقة، ولا بمشاعر ضد ثورة 2011 أو معها.
وأول الغيث كان من السعودية من خلال الحصول على نصف مليون دولار في شكل قرض ميسرة ومنح.
أصحاب رؤوس الأموال، دولا ورجال أعمال، يبحثون عن المكسب، وهو ما لا يتحقق دون ضمانات حقيقية من داخل الاقتصاد بقطع النظر عمّن هو في السلطة أو خارجها. وهذا هو سر تأخر دخول المال الخليجي إلى تونس.