ما قبل الحرب وما بعدها
لم ينتظر الجيش الإسرائيلي طويلاً كما فعل في غزّة، التي استمرّت أحزمة سلاح الجو النارية عليها ثلاثة أسابيع، كي يعلن اقتراب هجومه البرّي على لبنان، مستبدلاً القصف الجوي العنيف بالصدمات المتلاحقة التي نجح في توجيهها إلى حزب الله، وتُوّجت باستشهاد حسن نصر الله، الأمين العام للحزب والقائد التاريخي له، وباغتيال عددٍ وافرٍ من قيادات الحزب العسكرية، وبتفجيرات أجهزة البيجر والإرسال، ليستأنف القصف الجوي اليومي، الذي طاول الضاحية الجنوبية في بيروت، وشمل لبنان كلّه، مع تركيزٍ واضحٍ في نقاط تمركز الحزب وقاعدته الاجتماعية في بيروت والجنوب والبقاع وبعلبك والهرمل.
لم تقتصر المشكلة الوحيدة التي عانى منها حزب الله على ضعف منظومته الاستخباراتية التي مكّنت العدو من اختراق سلسلة التوريد التابعة له، واغتيال عدد كبير من قياداته، وقصف غرف عملياته، وإنّما امتدّت إلى قصور في تقدير الموقف العسكري منذ بدء “طوفان الأقصى”، حين قرّر حزب الله أن يكون جبهة إسناد لغزّة وفلسطين (وهذا يُحسب له)، وأن يربط وقف إطلاق النار في جبهة الشمال بوقفها في جبهة غزّة، مُستبعداً أن يشنّ الجيش الإسرائيلي حرباً برّية على لبنان، أو أن يتوسّع فيها بعيداً من قواعد الاشتباك التي التزم بها الطرفان، ضمن مدى يتراوح ما بين خمسة إلى عشرة كيلومترات من الحدود، وإذا ما تجاوز العدو ذلك، يُرَّد بشكل محدود، ومن ثمّ يعود الوضع إلى ما كان عليه.
لم يأتِ استبعاد نشوب حرب شاملة مع العدو من فراغ لدى قيادة الحزب، ولدى طيف واسع من المُحلّلين السياسيين والعسكريين القريبين من دوائره، إذ بُني هذا الموقف انطلاقاً من توفّر قدرة ردع كبيرة لدى حزب الله (وهذا صحيح)، راكمها خلال السنوات الماضية، ولم يتمكّن العدو من وقفها، على الرغم من ضرباته المُتكرّرة لخطوط الإمداد الممتدّة من العراق إلى سورية، وهي قدراتٌ تستطيع أن تُلحق خسائر كبيرة في بنية العدوّ التحتية ومنشآته الحيوية، وتوقّع مئات القتلى والجرحى في صفوف مستوطنيه، وتشلّ الحياة اليومية في الكيان الصهيوني، نظراً إلى القدرة الصاروخية الكبيرة ذات المَدَيات المختلفة، وتبلغ، بحسب توقّعات المراقبين، عشرات الآلاف من الصواريخ والطائرات المُسيّرة. ورافقت هذه التقديرات حملةٌ دعائيةٌ كبيرةٌ تروّج هذه القدرات، وتضيف إليها إمكانيةَ تحرير أجزاء من الجليل على يد قوة الرضوان في أيّ معركة مُرتقَبة، وبثّ صورٍ لمواقعَ حيويةٍ تمكّنت الطائرات المُسيَّرة من التقاطها بنجاح، إضافة إلى الخطابات التعبوية المتواصلة لحسن نصر الله وقادة الحزب، والحملة الإعلامية المتواصلة التي صوّرت الجيش الإسرائيلي مهزوماً، والمجتمع الإسرائيلي مفكّكاً، تحت وقع ضربات المقاومة في غزّة ولبنان، وبالغت في قدرات محور المقاومة الممتدّ من إيران إلى اليمن والعراق وسورية ولبنان، وفسّرت تظاهرات أهالي الأسرى بأنّها تظاهرات مناوئة للحرب، ولم تلاحظ إجماع المجتمع الإسرائيلي وتيّاراته السياسية على مواصلة الحرب، وفسّرت استمرارها بحرص نتنياهو على إطالة مدّتها الزمنية تجنباً منه للمحاكمة ودخول السجن، من دون أن تلاحظ المتغيّرات في الاستراتيجية الصهيونية التي اعتبرت المعركةَ بمنزلة حرب وجود واستقلال ثانية.
في الحروب، لا يكفي امتلاك قوّة الردع والتلويح بها لثني الخصم عن الهجوم أو دفعه إلى الاستسلام، وإنّما يجب استخدام هذه القوة عندما يكون ذلك ممكناً. وبالتجربة العملية، أضاع محور المقاومة هذه الفرصة التي لاحت له في الردّ على قصف السفارة الإيرانية في دمشق، وفي الردود الباهتة على اغتيال الشهيد صالح العاروري في الضاحية، وفي عدم الردّ على اغتيال الشهيد إسماعيل هنيّة في طهران، أو بعد عمليات الاغتيال المُتكرّرة من الشهيد فؤاد شُكر إلى قيادة الرضوان مجتمعة، إلى استمرار تمسّك الحزب بعد اغتيال حسن نصر الله بقواعد الاشتباك ذاتها، مبرّراً ذلك بتعاليم دينية وأخلاقية، وفق ما أعلنه نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم. ولو استُخدمِت قوّة الردع حينئذٍ لربّما حالت دون تطوّر الأوضاع على الجبهة الشمالية، ومنعت الاجتياح البري، إذ إنّ الضغط الوحيد المُؤثّر على الكيان الصهيوني هو الذي يأتي من جبهته الداخلية، نتيجة عدم قدرة مجتمعه على تحمّل خسائر كبيرة في الأرواح.
الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية تجاه حزب الله بُنيت على أنّ إسرائيل لا تستطيع أن تخوض حرباً كلّ عامين، وأنّها الآن معبأة بقواها الكاملة باتجاه الحرب، وأنّ تأجيل الحرب مع حزب الله أعواماً أخرى ستمكّنه من تعزيز قدراته ومضاعفتها، وهذا يحتم مواجهته الآن، بغضّ النظر عن الخسائر التي يمكن أن تلحق بها، إذ ستكون أقلّ من خسائرها إذا نشبت هذه الحرب بعد أعوام.
ثمّة سؤال آخر أكثر أهمّية: لماذا لم يستخدم الحزب قدراته الردعية وهي متوفّرة، كما سلف أعلاه؟ … والإجابة تتلخّص في عاملين. الأول يتعلّق بحساباته اللبنانية الداخلية. والثاني (الأكثر أهمّيةً) يتمثّل في خشيته من امتداد الحرب لتصبح حرباً إقليمية، تمتدّ إلى إيران التي قد تتعرّض لضربات إسرائيلية أميركية، وهو الاعتقاد الذي استمرّ سائداً بعد التصعيد أخيراً، إذ سادت مقولةُ إنّ توسيع الحرب “فخّ يخطّط له نتنياهو لتوريط إيران”، ويُفسِّر ذلك تلك الردود الخجولة على الاعتداءات الإسرائيلية، واستمرار التمسّك بقواعد الاشتباك على الرغم من تجاوز العدو لها، وهنا يكمن الخلل الرئيس في تقدير الموقف، وما إذا كان استخدام قوة الردع يمكن أن يمنع الحرب أو يضع حدّاً لها، أم يجعلها تمتدّ وتعرّض مصالح الحليف الرئيس إلى الخطر، ومن الواضح أنّ هذا كان تقديراً مشتركاً لدى كلٍّ من إيران وحزب الله، إلى أن قامت إيران أمس بتوجيه ضربة صاروخية كبيرة ناجحة، طاولت مركز الكيان الصهيوني بعد أن أصبحت أمام خيار أن تفقد نفوذها في الإقليم، وتفقد ذراعها الرئيسة وتضطر إلى الانكفاء إلى داخل حدودها، وتزداد بذلك احتمالات ضربها، أو أن تحاول استرداد هيبتها ومكانتها التي فقدتها نتيجة الخلل الذي أشرنا إليه في تقدير الموقف، ما قد يفتح المجال لمعادلات جديدة في الصراع الدائر ويسمح للمقاومة في لبنان بإعادة تنظيم صفوفها، ويضّطر العدو وحلفاءه لإعادة تقدير الموقف المتعلّق بالحرب الإقليمية ونتائجها.
الولايات المتّحدة (كما حالها منذ طوفان الأقصى) شريك كامل في الحرب على لبنان، إذ عزّزت قواتها في المنطقة، وأعلنت تأييدها العمليات العسكرية الجارية الحالية، مهمتها تتمثّل في ردع إيران عن التدخّل، وهو ما عبّر عنه وزير الدفاع الأميركي عندما وجّه تحذيراً مباشراً إليها بأنّ الولايات المتّحدة ستضربها بعنف إذا تدخّلت بشكل مباشر في الحرب. لن تكون الحرب محدودة بالغلاف الحدودي كما أعلن الاحتلال، بل ستكون حرباً طويلة وصعبة وقاسية على الطرفَين، وقد أعلن الكيان عن حالة طوارئ داخلية مدة شهر، وستُمدّد تبعاً لظروف الحرب، وهي حرب تحظى بإجماع داخلي من المعارضة والحكومة في آن واحد، المرحلة الأولى منها المتعلّقة بالغلاف الحدودي هدفها منع قوة الرضوان من تنفيذ هجمات معاكسة، وإن كانت محدودةً، عبر التسلّل إلى المستوطنات القريبة، ممّا قد يشكّل عاملاً معنوياً، وهو ما عبّر عنه يوآف غالانت ولويد أوستن، حين اتفقا على أنّ هدف العملية منع تكرار السابع من أكتوبر (2023) في جبهة الشمال.
ستتجاوز العملية المرتقبة هذا الهدف المحدود، ولعلّ في تجربة حرب عام 1982 عبرة، حين ضلّل آرييل شارون الحكومة الإسرائيلية ذاتها بشأن أهداف الحرب. كما أنّ الحديث عن سحب قوات حزب الله إلى خلف نهر الليطاني (45 كلم عن الحدود) لا قيمةَ عسكرية له، نظراً إلى أنّ ترسانة حزب الله الصاروخية قادرة على إصابة أي هدف داخل الكيان الصهيوني من مواقعها في البقاع والهرمل، وهو هدف مستمدّ من اجتياحات عامي 1978 و1982، عندما كان مدى قدرات المقاومة الفلسطينية الصاروخية لا يتجاوز 21 كلم، كما لا يمكن عزل مقاتلي الحزب عن أماكن إقامتهم في القرى الجنوبية. إنّ تدمير قدرات حزب الله يعني الوصول إلى مواقعه، والقصف الجوي المكثف يُؤثّر، لكنّه لا يضمن نجاحاً كاملاً، والطائرة لا تحتل أرضاً ولا نفقاً. لذا، قد يلجأ العدو إلى عمليات إنزال محدودة على مواقع حزب الله، تتضمّن أنفاقاً ومستودعاتِ ذخيرةٍ ومراكزَ قيادةٍ، أو يندفع عبر محورَين؛ الأول من الخاصرة السورية الرخوة باتجاه البقاع والهرمل، حيث قواعد الحزب الصاروخية بعيدة المدى، والثاني عبر القرعون وجزّين ليلتف على مواقع المقاومة في الجنوب، وستوضّح الأيام والأسابيع المقبلة ساحات المعارك المتوقّعة، كما أنّ أهداف الحرب ذاتها قد تتغيّر إلى محاولة التأثيبر في الخريطة السياسية الداخلية كما فعل شارون عام 1982.
ثمّة قول شائع مفاده بأنّ الضربة التي لا تقتل تقوّي، والأمل معقود على أنّ حزب الله سيتمكن سريعاً من إعادة تنظيم صفوفه، والتصدّي لهذا الهجوم البرّي الذي وصفه القادة الإسرائيليون بأنّه سيكون أقسى من الحرب على غزة، وأعقد منها وأصعب، وربّما أطول مدىً، وأنّ الأوان آن لتجاوز نكسة مرّ بها، ولتعلّم الدروس، ولرصّ الصفوف، ولتجاوز حالة الصدمة ورؤية الوقائع كما هي، وللانخراط في الحرب بالقوى والوسائل الممكنة كلّها.