معركة الدبيبة والبرلمان والحاجة إلى إعادة خلط الأوراق
الحبيب الأسود
من الطبيعي أن تؤدي المقدمات الخاطئة إلى النتائج الخاطئة. وما تعرفه ليبيا منذ العام 2011 لا يمكن أن يثمر غير تلك الصراعات والمواجهات والخلافات والعراقيل وآخرها قرار مجلس النواب حجب الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية، رغم أن الواقع يؤكد أن لا المجلس مجلس نواب حقيقيا، ولا الحكومة حكومة وحدة وطنية فعلية، وإنما هما إفرازان من إفرازات واقع سياسي واجتماعي متأزم ومشتت وخاضع لمصالح الأفراد قبل مصالح الشعب المنهك بفعل التجاذبات من خارج إرادته.
أول مشاكل ليبيا أن الفاعلين الحاليين وبدل أن يكونوا مؤتمنين على فترة انتقالية يسلمون بعدها مقاليد السلطة لمن يختارهم الشعب، يسعون بكل قوة إلى أن يكونوا أصحاب القرار اليوم وغدا وفي كل وقت وحين. عقيلة صالح لا يتصوّر نفسه خارج الحكم في المرحلة القادمة رغم هزيمة قائمته المشتركة مع وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا في انتخابات ملتقى الحوار السياسي بجنيف في فبراير الماضي، وهو لا ينسى كذلك أن هناك ألاعيب جرت من تحت أقدام البعثة الأممية، وأن أموالا صرفت ببذخ منذ اجتماعات تونس في نوفمبر 2021 للوصول إلى نتيجة دفعت بفريق محمد المنفي وعبدالحميد الدبيبة إلى صدارة المشهد.
من جانبه يعمل الدبيبة لسلطته وكأنه سيبقى فيها سنوات طويلة وليس فقط إلى حدود انتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر. وهو اليوم يحظى بشعبية جارفة في الأوساط الشعبية التي أقنعها بأنه جاء لينشر الأفراح بزيجات الشباب بدل الأحزان لفقدانهم في الحرب، وليساعد الفقراء والمحتاجين، ويعطي الليبيين حصة من حقهم في ثروتهم الطائلة التي حرموا منها طويلا. وهو لا يهتم كثيرا بأن يقف ضده البعض في برقة وفزان مواقف سلبية لأنه الثقل الديموغرافي الحقيقي موجود في طرابلس، وكذلك التركيز الدولي ينصب على مواقع القرار فيها، ومصرف ليبيا المركزي في العاصمة، والحلفاء الأتراك موجودون هناك وهم قادرون على حمايته من أي محاولة لإعادة خلط الأوراق ميدانيا. كما أن الدبيبة لا يكترث بأن يحجب عنه البرلمان الثقة، فقبله حكم فايز السراج لمدة خمس سنوات وصرف ما لا يقل عن 300 مليار دولار دون أن يحظى بتلك الثقة. الشرعية الحقيقية في ليبيا منذ 2011 هي تلك التي يوفرها المجتمع الدولي لمن يشاء.
الدبيبة يمارس لعبة الاستقواء بالثروة والسلاح وبالوعود الانتخابية السابقة لأوانها، لكن المجتمع الدولي لا يريد التفريط في الاتفاق السياسي الذي جعل منه رئيسا لحكومة انتقالية مؤقتة لا غير
وهناك في الرجمة ببنغازي المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني الذي لا يعترف به الدبيبة رغم سيطرته على شرق وجنوب البلاد وبسط نفوذه على أغلب منابع الثروة، والذي خلع بدلته العسكرية مؤقتا ويستعد لخوض غمار المنافسة على السلطة. ولكن الطيف الداعم للحكومة الحالية، بما في ذلك الإخوان وحلفاؤهم وأمراء الحرب والحليف التركي، غير قابلين لفكرة وجود حفتر أو أحد رموز النظام السابق في دائرة التنافس على الرئاسة، وما يقوم به مجلس الدولة من مساع محمومة للعرقلة ليس بعيدا عن الدبيبة ولا عن مراكز النفوذ المالي والسياسي والميلشيات الواقفة إلى جانبه، وربما أمامه لقيادة التوجهات العامة للمرحلة.
قد يتبين خلال الأيام القادمة أن الانتخابات الرئاسية لن تنتظم في موعدها في الرابع والعشرين من ديسمبر، والبعثة الأممية والأميركان والأوروبيون باتوا متأكدين من ذلك، وعقيلة صالح وخليفة حفتر تبلغا بالمعلومة ولاسيما خلال زيارتهما الأخيرة إلى القاهرة، وبالمقابل كان الدبيبة يخطط للبقاء في الحكم بعد انتخابات برلمانية يتقدم إليها مترشحون أساسيون من الدائرين في فلكه والمبشرين بزعامته السياسية، كما كان يعمل على وضع مختلف ألوان الطيف السياسي في غرب البلاد تحت إمرته بالاعتماد على الحليف التركي الذي تم الإعداد جيدا لعقد جملة من الصفقات معه خلال الأيام القادمة تصل إلى 50 مليار دولار بعد سلة الاتفاقيات مع القاهرة التي بلغت 30 مليارا، لكن سحب الثقة منه تمنعه على الأقل من توفير غطاء شرعي لذلك وهو الذي أصبح مكلفا فقط بتصريف الأعمال. عمليا هناك اتفاق أممي ودولي على أن مجلس النواب على سيئاته هو المؤسسة التشريعية الشرعية في البلاد.
يمارس الدبيبة لعبة الاستقواء بالثروة والسلاح وبالوعود الانتخابية السابقة لأوانها، لكن المجتمع الدولي لا يريد التفريط في الاتفاق السياسي الذي جعل منه رئيسا لحكومة انتقالية مؤقتة لا غير، ولا في الاتفاق العسكري الذي لم تسع الحكومة إلى تنفيذه وخاصة في ما يتصل بإجلاء المقاتلين الأجانب وحل الميليشيات وتوحيد المؤسسات العسكرية، وهو وإن نجح في تحقيق مساندة شعبية بسبب مشاريعه عاجلة الدفع للشباب وعلى رأسها منحة الزواج، ودفعه مبالغ مهمة لعمداء البلديات، والإفراج عن عدد من رموز النظام السابق، إلا أن ذلك يبقى بلا قيمة حقيقية طالما أن الأزمة السياسية لا تزال قائمة. فالتطلع للزعامة والقيادة يتطلب مناخا توافقيا بين مختلف الأطراف، ومنها الجيش الذي يبسط نفوذه على مصادر الثروة، وقبائل برقة التي تشعر بأن الحكومة الحالية خاضعة لنزعة جهوية.
عندما قرر وزير النفط – وهو من برقة – إقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط – وهو من طرابلس – واجهه الدبيبة بإلغاء القرار. وعندما تم الحديث عن استبعاد الصديق الكبير من إدارة المصرف المركزي، جعل منه الدبيبة أقرب المقربين منه. وعندما قاد الجيش حربا على جماعات المتمردين التشاديين في جنوب البلاد، لم يحرك الدبيبة ساكنا ولو ببيان يتيم. وعندما حاولت أطراف دولية وإقليمية الجمع بينه وبين حفتر في لقاء تصالحي، رفض الدبيبة ذلك خشية أن يخسر وجاهته بين حلفائه. وعندما تقدم بميزانية الدولة للبرلمان تبين للنواب أنها لم تتضمن بندا لتمويل الجيش. هناك الكثير من المفارقات التي تصب في اتجاه واحد وهو أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية رئيس للحكومة ولكن غير مهتم بالوحدة الوطنية التي لا تكون إلا بالتوافق بين جميع الفرقاء. ليس مهمّا أن تحب الطرف المقابل ولكن عليك أن تتعامل معه كواقع على الأرض لا يجوز تجاهله.
قد يدفع الدبيبة بأنصاره للخروج إلى الشارع في غرب البلاد، وبالمقابل سيخرج مناوئوه للتظاهر ضده في الشرق والجنوب، ولكن ذلك لن يفقد أيا من الطرفين. علينا أن ندرك أن المقدمات كانت خاطئة منذ العام 2011. المجتمع الدولي لم يكن يعرف من ليبيا سوى النفط والقذافي، واليوم يجني ثمن تلك الأخطاء عندما فرض حلولا تلفيقية لم يستفد منها إلا أصحاب المصالح الشخصية. الآلاف من الأثرياء خرجوا إلى العلن بأموال الاعتمادات وبنهب ثروة الشعب، والملايين من الفقراء يواجهون وضعا صعبا وهم يسيرون على أرض تختزن ثروات طائلة، وأنانية فردية تتدثر بشعارات عقائدية وحزبية وجهوية وإقليمية وقبلية لتضع البلاد في منزلقات لا تنتهي. قال بعض زعامات الغرب إن الانقسام أفضل من أن يحكمهم حفتر، ويقول زعماء من الشرق إن الانقسام خير لهم من أن يخضعوا لسلطة مطلعة تدار في طرابلس تسيطر على الثروة وتريد التحكم حتى في هوية من ينوي الترشح للانتخابات.
هناك مخاوف من إعادة خلط الأوراق في ليبيا ولكن الأوراق لم ترتّب فعلا حتى يخشى من إعادة خلطها. المثل الليبي يقول إن “كلّ واحد شيطانه في جيبه”، ولذلك لا أحد يستطيع الضحك على الآخر، ومن يعتقد أنه الأذكى عادة ما يجد نفسه في موقع التسلل. ليبيا الآن في حاجة ماسة إلى إعادة خلط الأوراق سياسيا على أن يتم ترتيبها بجدية وبنوايا حسنة ومن أجل مصلحة البلاد لا من أجل مصلحة الأفراد.