منظمة تحرير بديلة، ما العيب في ذلك؟
علي الصراف
أولا، حركة “فتح” لم تعد هي نفسها. فيوم كانت هذه الحركة في طليعة شعبها كحركة تحرر وطني، كان من حقّها أن تكون عصب النضال من أجل تحرير فلسطين، وأن تكون القوة القائدة في منظمة التحرير الفلسطينية. أما اليوم، وبحدود ما تمثله قيادتها الرسمية، فإنها عصب الطغيان والشلل والخذلان. وهذا ما أدى إلى تمزقها أيضا ليظهر فيها تيار إصلاحي يطالب بالتغيير، ولتدفع الاستعدادات لإجراء انتخابات تشريعية إلى انشقاق أعضاء بارزين آخرين، فضلا عن ظهور كتلة شعبية كبيرة كانت محسوبة على “فتح” لتنأى بنفسها عن تلك الـ”فتح” التي تحولت إلى مؤسسة سلطة تمارس الفساد والاستبداد وترفل في نعيم التنسيق الأمني “المقدس” مع الاحتلال من دون أن تقدم لشعبها شيئا أكثر من الكلام الفارغ والشعارات المزيفة، التي لا تسندها إمكانيات ولا يبرهن عليها واقع.
ثانيا، منظمة التحرير شاخت وترهلت ومرضت. عد لتنظر إلى فصائلها في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وسترى منظمات تتخاصم فيما بينها على سبل التحرير، وتقاتل على جبهة الفكر والسياسة والأعمال العسكرية ضد الاحتلال. لا أحد يمكنه القول إنها كانت على صواب دائما. إلا أنها كانت في حركية دائبة، تفكر وتعمل وتجند من قوى شعبها في الداخل والخارج ما استطاعت، فتحولت إلى قوى تتفاوت فاعليتها بحسب عمق ما أنشأته من روابط مع جوهر المسعى التحرري. بعض خسائرها جاء من طرف الظروف الموضوعية التي ظلت تحيط بها، وبعضها الثاني جاء من طرف الأوهام التي سعت العديد من الدول العربية إلى تغذيتها في النفوس، وبعضها الثالث جاء من طرف النزعات الفردية والارتباطات بدول الأوهام وأيديولوجياتها. إلا أنها ظلت جديرة بأن تكون طرفا في “منظمة” كانت أقرب إلى برلمان يجمع كل ألوان الطيف الفلسطيني المسلح. أما اليوم، فانْظر إليها وستجد منظمات سادها الوهم وغلب عليها العجز، وتداعت قدرتها على تمثيل ما بدأت به. حتى أن بعضها تحول إلى “أمين عام” لا يجد من حوله أكثر من بضعة زبانية يكيلون له المديح، فيكيل لهم الرواتب مما يحصل عليه من ميزانية المنظمة.
ثالثا، المعايير تغيرت كما تغيرت كل الأحوال من بعد الخروج من بيروت عام 1982 ودخول معترك السلام. هذا المعترك نفسه كان شيئا مختلفا عن المعترك السابق. وبينما بقيت الفصائل كما هي كانت الأرض من تحتها تتبدل. معترك السلام لم يفرض معايير سياسية مختلفة فحسب، ولكنه صار يتطلب خيارات نضالية مختلفة أيضا، كما صار يتطلب إعادة قراءة للواقع. ولقد فشلت معظم فصائل المنظمة في أن تجد طريقا يقوم على قراءات جديدة. وهذا هو السبب الذي حال بينها وبين التوصل إلى “إستراتيجية وطنية موحدة”. من ناحية لأن معظم تلك الفصائل ظلت ضائعة بين قراءات قديمة وتوجهات يفرضها واقع مختلف. والسبب هو أن القراءات القديمة كانت هي “كشك البيع” الذي لم تعرف ماذا تبيع لو أنها تخلت عنه. ومن ناحية أخرى، لأن واقع الاحتلال ظل ساحقا، وظلت جهود السلام تتعثر، الأمر الذي أبقى تلك الفصائل معلقة في الوسط، تتأرجح على حبال الحيرة، لا هي تستطيع أن تمضي بما اختارت إلى الأمام، ولا هي تملك ما تعود به إلى الوراء.
رابعا، “حركة التحرر الوطني” فقدت معناها السابق كليا. ولكن من دون أن تنشأ حركة تحرر وطني بناء على مفاهيم ومقاييس جديدة. انتقال قيادة “فتح” من الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى الرئيس محمود عباس لم يؤسس لشيء أكثر من سلطة فساد ومحسوبيات، فضلا عن الفشل السياسي الذي عجزت بسببه عن تحقيق أي تقدم في مسارات السلام. ولقد اختارت هذه السلطة طوعا أن تكون تابعا لسلطة الاحتلال وأداةً تنفيذية لغاياته الأمنية، من دون مقابل، يتعدى القبول بها كسلطة بلديات تتولى رفع القمامة وتحصيل الضرائب والتنسيق الأمني. وبينما ظل “حل الدولتين” يتداعى مع توسع عمليات الاستيطان حتى التهمت 90 في المئة من القدس وثلث الضفة الغربية، فإن سلطة الرئيس عباس لم تعرف ماذا تفعل في مواجهة هذا التداعي، وكل ما لجأت إليه كان مجرد كلام فارغ.
حل الدولتين لكي ينجح كان يتطلب الدفع به من جهة حل الدولة الواحدة. يبدو الأمر من الوهلة الأولى تناقضا. ولكنه ليس كذلك. سبعة ملايين فلسطيني كان يجب أن يعنوا شيئا لإقناع إسرائيل بأن دولة فلسطينية مستقلة هي الخيار الأمثل لبقائها هي بالذات. بكلام آخر، بدلا من إستراتيجية التنويم المغناطيسي التي اتبعها محمود عباس لتعطل قدرات شعبه على مقاومة الاحتلال، بوعود كاذبة وأوهام، فقد كان يتعين للتحرر الوطني أن يكشف عن نفسه للسبعة ملايين فلسطيني داخل أراضي 48 بالمقدار نفسه الذي يكشف عن نفسه داخل أراضي 67. وللمقاومة المدنية أساليب وأشكال لا حصر لها، ولكنها لم تُحص ولم تحصر، ولم تتوفر الأدوات لتفعيلها، ولا حتى لفهمها. وظل الفهم قاصرا على تظاهرات، حتى لم تجد السلطة من يتظاهر معها، لاسيما وأن بعضها كان بمثابة مسرحيات غايتها التقاط الصور.
خامسا، الشعب الفلسطيني الذي نزع القفاز في وجه الاحتلال نزع الثقة عن سلطة الرئيس عباس، كما نزع الثقة بالهيكلية التي تقوم عليها منظمة التحرير، بعد أن ثبت أنها لا تملك إستراتيجية واضحة ولا تعرف ماذا تريد أو كيف تصل إلى ما تريد الوصول إليه.
الانتفاضتان اللتان اندلعت أولاهما في ديسمبر 1987 وتواصلت لأربع سنوات وثانيتهما في سبتمبر 2000 واستمرت لخمس سنوات لم تكونا سوى انتفاضتي شعب بلا قيادة. من ناحية لأنهما كانتا انتفاضتيْن عفويتين لم تخطط لهما منظمة التحرير. ومن ناحية أخرى لأنهما كانتا انتفاضتين من دون هدف يتعدى الاحتجاج على قهر الاحتلال. وهو ما سمح للمنظمة باستغلاله في الاتجاه الذي كانت تعتقد أنه يفيد المضي في التسوية على أساس حل الدولتين، قبل أن تنتهي إلى أنها أفلتت الخيط والعصفور معا.
الانتفاضة الثالثة التي اندلعت من حي الشيخ جراح قدمت معادلات جديدة. ففي مقابل سلطة الفشل برزت سلطة رد الفعل التي مثلتها فصائل السلاح في غزة.
هذه الانتفاضة قدمت معايير جديدة. أبرزها سقوط سلاح القوة الطاغية، ووحدة الشعب الفلسطيني بشقيه، وفشل التمدد الاستيطاني في القدس على الأقل.
يكفي سلطة الرئيس عباس خزيا أنها ظلت الجانب الرخو الذي يمكن للاستيطان أن يتواصل فيه، من دون رد فعل. كما يكفيها خزيا أنها لم تستثمر الطاقة النضالية لشعبها في أراضي 48 حتى تحالف جانب من ممثليه مع حكومة يمين متطرف جديدة، بدلا من الاستثمار في الفوضى السياسية والاجتماعية وأعمال التمييز العنصري في إسرائيل. إلا أن ذلك كله قال شيئا واحدا على الأقل، هو أنها سلطة هراء سياسي، ومن ورائها منظمة اهتراء لا تعرف هي الأخرى ماذا تفعل أو ماذا تمثل أو مَنْ تمثل.
يقال الآن إن حركة حماس وبعض فصائل السلاح تسعيان إلى بناء منظمة تحرير جديدة. ما العيب في ذلك، إذا كانت تعرف بعض الجواب؟ ما العيب إذا كانت قادرة على الحوار مع أطراف فتح الأخرى، وغيرها من باقي الفصائل، أكثر مما يستطيع الرئيس عباس؟ على الأقل لتحل مشاكلها مع خياراتها المغلقة، لعلها تقدم جوابا أكثر نضجا.
قد لا يعبر ذلك الجواب عن رؤية متماسكة بالضرورة. وقد لا يمثل إستراتيجية وطنية تتوافق مع القراءة الحصيفة للواقع والإمكانيات بحيث تفضي إلى نتائج إيجابية، بدلا من أن تفضي إلى كوارث. ولكن بعض الرؤية خير من منظمة تحرير أصابها العمى، ومرضت بالشلل، ودفنها الرئيس عباس.