من التنافس بين الحسينية والنشاشيبية إلى التنافس بين فتح وحماس
ماجد كيالي
ليس جديدا أو استثنائيا ذلك التنافس، وبالأحرى التصارع، على المكانة والقيادة والسلطة، في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، على نحو ما يجري بين حركتي فتح وحماس، بأشكاله السياسية أو التمثيلية أو العنيفة، منذ أكثر من عقدين، أي منذ ظهور حركة “حماس”، وبالأخص منذ نجاحها في الانتخابات التشريعية (2006)، وهيمنتها على قطاع غزة (2007).
ففي التاريخ الفلسطيني كانت الحركة الوطنية الفلسطينية شهدت، إبان مقاومة الانتداب البريطاني والمشروع الاستيطاني الصهيوني لفلسطين (1918 ــ 1948)، صراعا مريرا ومديدا على الزعامة والمكانة والسياسة بين العائلتين المقدسيتين (الحسينية والنشاشيبية)، ما أسهم في إضعاف تلك الحركة واستهلاك تاريخ الشعب الفلسطيني، واستنزاف قدراته، وتشتيت طاقاته، وصرفه عن مواجهة التحديات الحقيقية، التي واجهته تلك الفترة. ويبدو أن تصاريف القدر، في هذه المرحلة، تشاء أن يكابد هذا الشعب، مرة ثانية، تداعيات مثل تلك التجربة، في تكرار ربما للمآل التراجيدي لحركته الوطنية الأولى، مع واقع أقسى، وأثمان باهظة أكبر، سياسيا وماديا، مع تداعيات أكثر خطورة.
هكذا عانى الفلسطينيون في ذلك الزمن الصعب (1918ـ1948) جراء الانقسام الحاصل بين زعيمي هاتين العائلتين، أو بين تياري المجالسية (نسبة للحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى)، والمعارضة (نسبة لراغب النشاشيبي رئيس بلدية القدس)، وظلت حركتهم الوطنية الوليدة، حينها، أسيرة التداعيات السلبية الجمّة الناجمة عن استمرار وتعمق هذا التجاذب المرضي، رغم مخاطر تآكل الوطن، واستشراء السرطان الصهيوني، أمام أنظار الجميع.
بالنتيجة، لم تستطع الحركة الوطنية الفلسطينية، المنقسمة على ذاتها، بين الحسينية والنشاشيبية، أو بين المجالسيين والمعارضين، طوال فترة الانتداب البريطاني، التوافق على استراتيجية سياسية مشتركة، ولا التفاهم على أشكال معينة للنضال، ولا تشكيل مؤسسات سياسية مشتركة، توحد الشعب الفلسطيني، وتقود نضاله؛ وإن حصل ذلك فلفترات محددة، وبفضل الضغوط والجهود العربية.
وفي حينه فقد كان الانقسام بلغ حد أن كل طرف يكيل تهم الخيانة والعمالة للطرف الأخر، إلى درجة بات الوضع معها شديد الخطورة، مع قيام كل طرف باستهداف الطرف الأخر، عبر تشكيل مجموعات للاغتيال أو للقتل، أو عبر قطع الطريق عليه في العمل السياسي، وفي القيادة.
وكما يحصل اليوم، فإن النخب المتنورة أو المتمدنة، آنذاك، لم تستطع الخروج على ذلك الاستقطاب وولوج طريق ثالث، أو تشكيل قطب ثالث، أساسا بسبب محدودية عددها ونفوذها، وبحكم حداثة التجربة السياسية، وضعف التشكيلات الحزبية، وأيضا بسبب تخلف البنى الاجتماعية للشعب الفلسطيني، وسيادة العلاقات العشائرية والبطركية، ما عكس نفسه على واقع الحركة الوطنية وخطاباتها وتشكيلاتها، ووسائل عملها وعلاقاتها.
طبعا، لا يمكننا أن نغفل هنا ثقل أو دور دولة الانتداب والحركة الصهيونية، بكل ما يعنيه ذلك من قوى وشبكة تحالفات وعلاقات وإدارة حداثية وعقلانية، في المساهمة في تعميق ذلك الانقسام، وإعاقة نمو الحركة الوطنية، وإشاعة البلبلة والفوضى والفرقة في صفوفها (الأمر الذي تفعله إسرائيل أيضا في هذه المرحلة).
المهم أنه في خضم تلك الدوامة من الخلافات والتناحرات والاتهامات باتت الحركة الوطنية الفلسطينية عرضة للتآكل والاهتلاك، وسادت الفوضى صفوفها، ما سهّل على حكومة الانتداب، ومعها الحركة الصهيونية، مخططاتهما في استنزاف قدرات الشعب الفلسطيني السياسية والاقتصادية والكفاحية، من جهة، والمضي بسياسة فرض الأمر الواقع، من جهة أخرى؛ عبر زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والإمعان في بناء المستوطنات، وإقامة المزيد من المؤسسات الصهيونية، التي باتت بمثابة جنين الدولة الصهيونية القادمة.
وباختصار، فإن غياب استراتيجية سياسية وكفاحية واضحة ومتفق عليها، وغياب القيادة أو المرجعية الوطنية الناضجة والمسؤولة، وضعف تقاليد المشاركة الشعبية، وتدني مستوى العمل الجماعي المؤسساتي ـ الديموقراطي، كل ذلك أسهم في ضياع فلسطين، وسهل إقامة إسرائيل، إذ عندما أزفّت ساعة الحقيقة (1948) كان الشعب الفلسطيني منهكا ومستنزفا من الجوانب الاقتصادية، ومشتتاً وضائعا من الناحية السياسية، بسبب خلافات زعمائه، وفوقيتهم، وأنانيتهم. وقد نجم عن ذلك أن الحركة الوطنية الفلسطينية ليس فقط لم تستطع تنظيم الدفاع عن فلسطين، أو تنظيم التراجع الفلسطيني، كي لا يحصل بالشكل الكارثي الذي تم عليه، لكنها أيضا لم تستطع حتى إقامة كيان فلسطيني في الأراضي التي لم تقع تحت سيطرة إسرائيل، أي الضفة والقطاع، ولم تستطع الحفاظ على استمراريتها، إذ غابت تلك الحركة بشكل تراجيدي، بقيادييها وإطاراتها، كأنها جزء من خرائب النكبة!
الآن، ومنذ 14 عاما، يعيش الشعب الفلسطيني تداعيات أو مخاطر تلك التراجيديا التاريخية، رغم الفوارق بين التجربتين التاريخية والمعاصرة. صحيح إن التصارع الداخلي في التجربة المعاصرة يتميز عن التجربة السابقة (إبان الانتداب) بكونه لا يستند إلى إرث عائلي، أو إلى عصبية عائلية أو عشائرية، باعتبار أن الأمر يتعلق بحركتين سياسيتين كبيرتين (“فتح” و”حماس”)، تتمتعان بعمق تاريخي، في العمل السياسي، يناهز على أكثر من أربعة عقود من الزمن، وهو ما يحسب لصالح تلك التجربة، فثمة مؤشرات أخرى مهمة تشي بإمكان استمرار انزلاق الساحة الفلسطينية نحو مزيد من الانقسام والمخاطر من ضمنها:
1) أن الانقسام الحالي، والتصارع السائد، هو بين حركة سياسية تمثل تيار الوطنية الفلسطينية (فتح)، وبين حركة أيدلوجية تمثل تيار الإسلام السياسي، في الساحة الفلسطينية، وهي أيضا حركة سياسية ذات امتدادات إقليمية ودولية.
2 ـ غياب المؤسسات، وضعف العلاقات الديمقراطية، وبشكل خاص تراجع حال التنوع والتعددية في الساحة الفلسطينية، بسبب من الاستقطاب الحاصل في المجتمع الفلسطيني لأحد الاتجاهين (فتح أو حماس)؛ ذلك إن من شأن وجود قطب ثالث إيجاد نوع من التوازن في الساحة الفلسطينية.
3 ـ غلبة الطابع الميليشياوي /المسلح على البنية التنظيمية للفصيلين المذكورين (فتح وحماس)، وتحولهما، أو تصرفهما، كسلطة، وليس كحركتي تحرر وطني، إزاء بعضهما، وإزاء الشعب في الإقليم الذي يسيطر كل منهما عليه.
4 ـ الاختراقات والمداخلات الإسرائيلية التي تسهم في تأجيج التصارع الفلسطينيين، لاستنزافهم وإرهاقهم، وللترويج لنظريتها عدم أهلية الفلسطينيين لحكم أنفسهم، ونزوعهم للعنف، وصرف مسؤوليتها عن تدهور أوضاعهم.
5 ـ تراجع الاهتمام العربي بقضية فلسطين وعدم وجود مرجعية عربية مناسبة من شأنها الضغط لوضع حد لخلافات الفلسطينيين وصراعاتهم، لاسيما في إطار التوظيفات الدولية والإقليمية السائدة والمتضاربة.
قصارى القول، ووفقا لكل ما تقدم، فإن استمرار حال الانقسام، والتصارع، بين فتح وحماس، ربما يجعل مآل الحركة الوطنية الفلسطينية، ليس أقل مأساوية من مآل الحركة التي سبقتها.