من يتحمل مسؤولية فاجعة درنة؟
لا شك أن الأغلبية الساحقة من الليبيين، تابعت باهتمام ما أعلن عنه النائب العام من توجيه تهم إساءة إدارة المهمات الإدارية والمالية المنوطة إلى رئيس هيئة الموارد المائية السابق وخلفه، ومدير إدارة السدود وسلفه، ورئيس قسم تنفيذ مشروعات السدود والصيانة، ورئيس قسم السدود بالمنطقة الشرقية، ورئيس مكتب الموارد المائية – درنة، وإسهام أخطائهم في وقوع كارثة فقد ضحايا الفيضان، وإهمالهم اتخاذ وسائل الحيطة من الكوارث، وتسببهم في خسائر اقتصادية لحقت بالبلاد، وإلى عميد بلدية درنة لإساءة استعمال سلطة وظيفته، وانحرافه عن موجبات ولاية إدارة الأموال المخصَّصة لإعادة إعمار مدينة درنة، وتنميتها.
ومثل هذه الاتهامات لا تحتاج إلى جهد كبير، وقد تكون الحل الأسهل في مواجهة الغضب الشعبي، لاسيما أن الجميع بات على علم بأن كارثة درنة لم تكن بسبب العاصفة “دانيال” وإنما هي نتيجة حتمية لحالة الإهمال واللامبالاة التي كان عليها السدّان الرئيسيان اللذان انفجرا ليدفعا بملايين الأمتار المكعبة من المياه التي جرفت كل ما اعترضها في طريقها من بشر وحجر، وأدت إلى خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة في تاريخ ليبيا.
من البدء، كان واضحا أن لا أحد سيتجرأ على توجيه الاتهام نحو كبار المسؤولين الذين تداولوا على حكم البلاد منذ الإطاحة بالنظام السابق في العام 2011، وأن صغار الموظفين هم من سيدفعون الثمن غاليا، وبخاصة أولئك الذين لا يحظون بغطاء اجتماعي متين. لم نسمع مثلا قادة الجيش في بنغازي وهم يدعون إلى ملاحقة حكومة الوحدة وقبلها حكومة الوفاق وحكومات المؤتمر الوطني العام، كما لم نسمع في طرابلس مسؤولا حكوميا يدعو إلى التحقيق مع الجنرال حفتر ورجالاته أو مع حكومة الاستقرار المنبثقة عن مجلس النواب وقبلها الحكومة المؤقتة برئاسة عبدالله الثني والتي تولت السلطة التنفيذية في المنطقة الشرقية منذ العام 2014.
ربما الشخصية الوحيدة التي تعرضت للاتهام المباشر، هي شخصية رئيس البرلمان عقيلة صالح الذي سعت بعض الأطراف لاستغلال الكارثة ليس فقط للإطاحة به، وإنما لاستبعاده من المشهد السياسي، وذلك لأسباب ذات صلة بالتوازنات القبلية والمناطقية، وكذلك في محاولة لإقصاء مجلس النواب من المشهد السياسي بما يتيح للأطراف المتنافسة على الحكم فرصة التوافق على الاستمرار في تقاسم السلطة من خارج الإطار التشريعي. هنا كان الموقف المصري صريحا حيث أكد وزير الخارجية سامح شكري في كلمة بلاده أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أن القاهرة ترفض وبشكل قاطع تجاوز الدور التشريعي لمجلس النواب الليبي، وتعلن تحفظها على أي أطروحات بديلة تستهدف إلغاء دور المشرع الليبي واستبدال أجسام أخرى به وتمسكها بولاية السلطة التشريعية بمقتضى الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي الليبي (الصخيرات 2015) في قيادة الحوار الليبي – الليبي الرامي إلى إنهاء المراحل الانتقالية في البلاد.
إن أهم من يمكن محاسبتهم على الكارثة، هم المسؤولون الذين لم ينتبهوا للمخاطر إلا عندما تحولت إلى مأساة، ولم يكتشفوا ملفات الفساد ونهب المال العام إلا بعد أن تسبب في هول الفاجعة التي أصابت درنة والجبل الأخضر. ألم تكن للدولة أجهزة رقابية كان يمكن أن تحذر من وضع السدين الرئيسيين وما يمكن أن يتسببا فيه في حال انفجارهما؟ ألم تكن لديها مؤسسات قادرة على الرصد والاستشراف لتنتبه إلى ما يمكن أن ينتج عن أي كميات استثنائية من الأمطار في سياق التغيرات المناخية التي يشهدها العالم وتعتبر ليبيا من بين أكثر الدول تأثرا بها؟
ألم تطلع السلطات الحاكمة في المنطقة الشرقية، على أوضاع السدين التي كان قد حذر منها عدد من الخبراء والمهندسين، وعلى التقارير الصادرة عن مختلف نماذج الأرصاد الجوية في المنطقة والعالم والتي تحدثت عن المخاطر التي ستشكلها عاصفة “دانيال” على شرق ليبيا بعد الخسائر التي ألحقتها باليونان وتركيا؟
ألا يطرح توجيه الاتهام إلى عميد بلدية درنة الكثير من الأسئلة حول الموقف القانوني للعمداء السابقين ممن تم في فترات إدارتهم للبلدية توقف عملية ترميم السدود، وسرقة معدات الشركة التركية، والتلاعب بالمال العام، وعرقلة محاولات العودة إلى العمل؟ وماذا عن الوضع العام للمدينة وللبنى التحتية في ظل حكم تنظيم “القاعدة” من 2011 إلى 2018 الذي كان يحظى بدعم مباشر من سلطات طرابلس ومن قوى الإسلام السياسي ورعاتها الإقليميين؟
إن أهم ما يمكن ملاحظته، أن هناك رغبة واضحة لدى الأطراف الداخلية والخارجية في طمر الحقيقة إلى جانب ضحايا الكارثة، وأن المجتمع الدولي لم يضغط من أجل ضمان نزاهة ونجاعة التحقيق، كما أن الأمم المتحدة لم تدفع نحو تشكيل فريق تحقيق دولي قادر على ممارسة مهامه في منتهى الحياد والمهنية. وهو ما يعني أنه ستتم ملاحقة عدد من صغار الموظفين والزج بهم وراء القضبان وتحميلهم كامل المسؤولية الجنائية عما جرى في درنة دون نظر أو اعتبار للمسؤوليات السياسية والأخلاقية، أو للسياقات العامة لظاهرة الفساد التي أصبحت تقف وراء حالة التخريب الممنهج للدولة من قبل محترفي نهب المال العام الذين تداولوا على السلطة بكافة مستوياتها منذ 12 عاما.
لا شك أن مطالبة بعض الأطراف السياسية في العاصمة طرابلس بتحقيق دولي، تدخل في إطار التجاذبات القائمة والصراع على السلطة، وهو يعني ضرورة العمل على تحميل سلطات المنطقة الشرقية مسؤولية فاجعة درنة، في إشارة إلى قيادة الجيش التي كانت أعلنت عن تحرير المدينة من حكم الجماعات الإرهابية منذ العام 2018 وعن مشروع لإعادة إعمار درنة وبنغازي دون أن تبدي اهتماما خاصا بترميم السدين، وإلى مجلس النواب الذي كان من المفترض أنه الرقيب الأصلي على السلطات التنفيذية المنبثقة عنه منذ انتخابه في العام 2014.
لكن ذلك لا يضمن تبرئة السلطات المركزية منذ زمن القذافي وحتى الآن، من جرائم الإهمال والتقصير التي أدت إلى هول الكارثة.
قد يذهب الموظفون الصغار أكباش فداء، فيما يبقى كبار المسؤولين يدورون آمنين داخل سور الحصانة التي ينعمون بها بغطاء الحسابات الداخلية والعناية الخارجية من الدولة الساعية لضمان مصالحها بواسطة شخصيات يبدو أنها ستستمر طويلا في الإفلات من العقاب.