من يربح معركة كسر العظم في تونس: النقابة أم الحكومة
مختار الدبابي
تشتعل معركة ثانية أكثر قوة الآن في تونس، بعد معركة رؤوس السلطة الثلاثة (رئيس الجمهورية قيس سعيد، رئيس البرلمان راشد الغنوشي، ورئيس الحكومة هشام المشيشي)، وهي معركة الحكومة ضد الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في البلاد).
وتختلف هذه المعركة عن سابقتها، فالأولى معركة كلامية تتضرّر منها المؤسسات السياسية، لكن الثانية معركة أعمق لأنها تمر مباشرة إلى الإضرابات وتهدد بتعطيل مؤسسات حيوية مثل أنشطة الخطوط الجوية، واللجوء إلى إضرابات محلية توقف عمل الإدارات الخدمية في البلاد، فضلا عن معارك أخرى في مواقع إنتاج الفوسفات والنفط.
بقطع النظر عن الشعارات التي يرفعها النقابيون الممثلون للقطاعات التي تشهد أزمات مع الحكومة، والتي تدافع عن قطاعاتهم وترفض خصخصتها جزئيا أو كليا، فإن تصريحات القيادة النقابية، خاصة الأمين العام للاتحاد نورالدين الطبوبي تظهر أن المعركة سياسية بالدرجة الأولى، وأن البعد النقابي المطلبي هو شيء ثانوي رغم مشروعيته نقابيا واجتماعيا.
لا يخفي الاتحاد رغبته في الاستمرار في دوره السياسي كضابط للتوازنات القائمة في البلاد، ومساهم فعال في التغييرات التي عرفتها البلاد منذ 2011، فقط لعب دورا مؤثرا في إسقاط حكومة “الترويكا 2” التي كان يرأسها القيادي في حركة النهضة علي العريض بعد موجة الاغتيالات السياسية. وكان محددا في الحوار الوطني الذي جرى في 2013 وقاد حركة النهضة إلى تسليم مهامها لحكومة وحدة وطنية أشرفت على التحضير لانتخابات 2014 التي فاز بها حزب نداء تونس في التشريعية، والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في الرئاسية.
ولعب الاتحاد دورا محددا في ظهور حكومة يوسف الشاهد واستمرارها وسقوطها، ويريد أن يستمر بنفس الدور مع حكومة المشيشي والحزام السياسي والبرلماني الذي يدعمها، وتقوده حركة النهضة. مع ملاحظة أنه كلما كانت هذه الحركة في الواجهة كانت مواقف الاتحاد أكثر راديكالية بسبب ما يعتبره عداء منها للعمل النقابي مثلما ورد في تصريحات الطبوبي منذ أيام. وقال أمين عام الاتحاد إن جزءا من قيادات النهضة يكن العداء للاتحاد.
لا يمكن إنكار المبرّرات الاجتماعية لتحركات الاتحاد، فتونس في أسوأ وضع اقتصادي واجتماعي لها سواء ما تعلق بالتضخم وارتفاع الأسعار وتأثيرها على القدرة الشرائية للناس أو ما تعلق بالخدمات التي يفترض أن تحافظ الحكومات على تقديمها، وهي خدمات متراجعة بشكل كبير خاصة في التعليم والنقل والخدمات الصحّية في المؤسسات الحكومية، فضلا عن تهميش الفئات الفقيرة التي لا توجد أي جهة نقابية أو اجتماعية تدافع عنها.
ويدافع الاتحاد عن المنضوين تحت لوائه في القطاع العام والخاص، ونجح في فرض زيادات في الأجور وحصول أغلب القطاعات على مزايا وعلاوات، لكن تلك الزيادات أفرغت من أي قيمة بسبب زيادات متزامنة في الأسعار وارتفاع تكاليف الحياة، وهي معادلة تضرّرت منها بصفة مباشرة الفئات الفقيرة التي لا تحصل على أجور أو مساعدات ثابتة بالتوازي مع تدني الخدمات لتراجع الإنفاق الحكومي عليها وتحويله لاسترضاء الاتحاد من ناحية، ومن ناحية أخرى فهذا الإنفاق واقع تحت تأثير الفساد والسرقات والمحسوبية في غياب الرقابة والحوكمة الرشيدة وتركيز الحكومة على المعارك والتجاذبات السياسية.
يريد الاتحاد الحفاظ على دوره الوازن في تحديد المسار السياسي في البلاد استجابة لشعار أنصاره “الاتحاد أكبر قوة في البلاد”، ولذلك قدمت قيادة النقابة الأكبر في تونس مبادرة الحوار الوطني، والتي كان الهدف المباشر منها إنهاء الخلافات السياسية الحادة بين رؤوس السلطة، وهي خلافات مستمرة منذ الأشهر الأولى التي تلت انتخابات 2019، بسبب صراع الصلاحيات الذي يستمد قوته من تعدّد القراءات للدستور وتناقضها وغياب محكمة دستورية قادرة على الحسم في الخلافات.
ومع تقدم الوقت تجد دعوة الاتحاد إلى الحوار الوطني مشروعية أكبر خاصة بعد أزمة التعديل الوزاري الأخير، ورفض الرئيس قيس سعيد قبول الوزراء لأداء اليمين الدستورية أمامه، ومرور رئيس الحكومة إلى مناورة تقوم على سحب الوزراء المقترحين وتكليف وزراء بالنيابة لإدارة الحقائب مثار الخلاف، وهي التي تعود بالأساس إلى وزراء محسوبين على رئيس الجمهورية.
كان يمكن لمبادرة الحوار الوطني أن تحل المشكلة من البداية وتحول دون هذا التصعيد المهدد لعمل المؤسسات الحكومية، لكن المبادرة لم تلق الدعم خاصة من الرئيس سعيد الذي اقترحه الاتحاد ليكون راعيا للحوار، فيما اكتفى رئيس الحكومة ومن ورائه رئيس البرلمان بموافقة باهتة هدفها إحراج رئيس الجمهورية وإظهاره في موقف الرافض لمبادرة تخرج البلاد من أزمتها.
ويشعر قادة الاتحاد بوجود توافق ضمني من الرؤوس الثلاثة للدولة على إفشال مبادرته، وأن المبرر ليس فقط أزمة الصلاحيات، ولكن هناك رغبة خفية في الحد من دوره السياسي خاصة لدى حركة النهضة التي تتحكم من بوابة تحالفها البرلماني في قرار الحكومة وما تعلق بتعيين شخصيات معادية للاتحاد وعلى استعداد للصدام معه مثلما حصل مع ألفة الحامدي رئيسة شركة الخطوط التونسية التي تمت إقالتها منذ أيام بسبب معركة لي ذراع بينها وبين الطبوبي، وهي الشخصية الأولى التي دخلت في صراع علني مع الاتحاد ووظفت فيه وثائق إدارية.
وأرسلت إقالة الحامدي، والحملة التي قادها قادة الاتحاد وأنصاره في وسائل الإعلام، وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، إشارة على أن المنظمة النقابية ذات الثقل لا تسمح لأي كان بالهجوم عليها وإثارة التساؤلات والشكوك حول سجلها المالي وذمم رموزها، وهي رسالة لا تقف عند الحامدي وإنما تحمل تحذيرا لمن سيتم تعيينهم مستقبلا على رأس مؤسسات حكومية بأن عليهم أن يقرأوا حسابا للاتحاد ووزنه.
لكن الحملة، وإن كانت أظهرت وزن الاتحاد، إلا أنها طرحت تساؤلات بشأن قدرته على تحمّل النقد والاختلاف، ومدى استعداده لفتح الملفات المالية ودرء الاتهامات التي توجه له بالإنفاق المبالغ فيه على الأنشطة، وقضية التفرّغ النقابي، واتهامه بعدم المواءمة بين مطالبه ووضع البلاد الاقتصادي الصعب.
صحيح أن الاتحاد نجح في دفع الحكومة إلى إقالة الحامدي، لكن الإقالة والحملة الموجهة ضد المرأة التي تعيش بالخارج وتحمل شهادات عليا توجهان رسالة سلبية للكفاءات التونسية المهاجرة التي تفكر في العودة والمساهمة في إنقاذ البلاد. وسبق أن عادت كفاءات تونسية وشاركت في حكومات مختلفة أو وضعت خططا لمشاريع في تونس، لكنها أجبرت على العودة من حيث جاءت تحت وقع تشابك مصالح متعدد الدوائر يحكم قبضته على البلاد.
وينتظر أن يستمر الاتحاد في حملة الحفاظ على المكاسب خاصة في المؤسسات الحكومية التي يقارب أغلبها على الإفلاس، وتقول الحكومة إنها تريد حوكمتها، فيما ينظر النقابيون إلى خطط الحكومة على أنها مناورة لإضعاف هذه المؤسسات والتحضير لخصخصتها، ويعتبرونه خطا أحمر.
وأيّا كانت نوايا الاتحاد من معركة كسر العظم مع الحكومة، فإنه يجد تفهّما واسعا لدى دوائر عديدة تنظر إليه كصمام أمان أخير أمام فوضى الحكم الحالي وطبقة سياسية عاجزة عن إدارة الدولة وتكتفي بالهروب إلى الأمام وإغراق البلاد بالقروض لحل أزمتها الحالية دون تفكير في مستقبل الأجيال.