من يغذي الجدل حول توطين اللاجئين في تونس
يصر الكثير من التونسيين على أن جولات المسؤولين الأوروبيين إلى تونس تضع على أجندتها دعم تونس مقابل توطين اللاجئين الأفارقة. مصادرة مسبقة دون أن يوجد ما يدعمها من مواقف رسمية أوروبية أو حكومية تونسية.
ورغم تأكيد الرئيس قيس سعيد مرارا أن لا سبيل لتوطين أجانب في تونس أيا كانت الظروف، وقد أعاد نفس الموقف الاثنين خلال لقائه وزيري داخلية ألمانيا وفرنسا، فإن منظمات حقوقية وأحزابا وشخصيات سياسية أصدرت بيانا تحذر فيه من اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يقوم على “مقايضة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب لتونس” بحزمة من “المقترحات المذلة والمهينة”.
وافترض البيان أن الاتفاق يقوم على “ترحيل لاجئين من دول أفريقيا جنوب الصحراء وتوطينهم في تونس، وترحيل تونسيين دخلوا أوروبا عبر الهجرة غير النظامية”.
ورغم أن سفارتي ألمانيا وفرنسا أصدرتا بدورهما بيانا مشتركا حول زيارة وزيري داخلية البلدين لم يتضمن أي إشارة إلى توطين، فإن الساحة السياسية والإعلامية في تونس ليس لها من شغل سوى افتراض أن الأمر قد حصل، وأن الرئيس سعيد قد قبل “خطة أوروبا بشأن التوطين” رغم أن الفكرة صعبة ولا يمكن تحقيقها على الأرض لاعتبارات كثيرة، من بينها الحساسية البالغة لوجود الأجانب في البلاد.
صحيح أن بعض الدول الأوروبية فكرت في اللجوء إلى “بلد ثالث” لاستقبال أعداد من اللاجئين، لكن الفكرة تعترضها تعقيدات قانونية في أوروبا نفسها، فليست ثمة حكومة تنفذ ما تقرره من دون أن تمر بالمؤسسات وأن يقاس مقترحها بمقياس حقوق الإنسان وتقبل به المنظمات الحقوقية المدنية الوازنة.
فهذه بريطانيا عجزت عن تنفيذ مقترح حكومي بإرسال لاجئين إلى رواندا ضمن خطة لمواجهة قوارب المهاجرين التي تأتي من فرنسا، لكن المقترح ظل معلقا وصرفت الحكومة عنه النظر وركزت على تكثيف الدوريات للتصدي لهذه الموجة.
وهذا ما تريده أوروبا من خلال دعمها لتونس، وهي مساعدتها ماليا ولوجستيا من أجل التصدي لقوارب المهاجرين ليس فقط الذين يتجهون منها نحو إيطاليا، ولكن أيضا أولئك الذين يدخلون إليها من حدودها الجنوبية أو الغربية.
وهذا ما أشار إليه البيان الذي أصدرته كل من سفارة فرنسا وألمانيا بالتأكيد على أن وزيري داخلية البلدين ناقشا مع السلطات التونسية “تحديث نظام التعرف على بصمات الأصابع”، وتقديم الدعم لتونس بهدف “تجهيز المصالح المسؤولة عن مكافحة الهجرة غير النظامية والجهود الرامية إلى معالجة الأسباب الجذرية للهجرة”.
ومن خلال هذه المعطيات، يبدو موضوع توطين اللاجئين هاجسا افتراضيا لدى ساحة سياسية واجتماعية تونسية تقوم وتصحو على نظرية المؤامرة واعتماد الإشاعات مصدرا للمعلومة والتقييم وإصدار الأحكام حتى لو كانت الإشاعة غير واقعية.
هل يمكن أن يقبل عاقل فكرة أن تونس ستغامر، بإرادتها أو تحت الضغط، بتوطين عشرات الآلاف من سكان جنوب الصحراء لتزيد الأعباء على أعبائها المحلية وتعقيدات أوضاعها.
سبق أن تعاملت أوروبا مع دول عديدة في موضوع التصدي لقوارب اللاجئين وبنفس ما يجري مع تونس. لكن الفارق أن هذه الظاهرة تزايدت بشكل كبير في السنتين الأخيرتين بسبب الصراعات وأزمات المناخ والجفاف والغذاء، وزادت الأعباء على الدول التي يعبر منها اللاجئون نحو أوروبا مثل تونس.
وتريد دول الاتحاد الأوروبي المتضررة من موجات اللاجئين المتزايدة أن تدعم دول العبور المتضررة بدورها وتساعدها في القيام بدور الصد الأول، ضمن مقاربة تقوم على تبادل المصالح، خاصة بالنسبة إلى تونس التي تعيش وضعا اقتصاديا وماليا صعبا ناجما عن سوء إدارة البلاد منذ الثورة.
ما الذي يجعل رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني تتحرك في كل اتجاه لإقناع الأوروبيين وصندوق النقد بتقديم الدعم العاجل لتونس، أليس ذلك يأتي ضمن مقاربة تقوم على تبادل المصالح، أنا أدعمك ماليا وأتحرك بعلاقاتي لمساعدتك مقابل أن تقوم أنت بمساعدتي بزيادة جهودك في التصدي للاجئين.
وجددت ميلوني، الثلاثاء، خلال وجودها في فرنسا للمشاركة في مؤتمر دولي، التأكيد على ضرورة “التحرك بشكل عملي وجاد على مستوى الاتحاد الأوروبي لإيجاد حلول لتونس”.
لم تشترط إيطاليا على تونس مقابل ما تحصل عليه من دعم أن تمنع بشكل بات مرور أي لاجئ، فهذا أمر غير ممكن، ولا اشترطت عليها استعادة من عبروا الحدود البحرية التونسية نحو إيطاليا من تونسيين وأجانب. المسار التفاوضي إلى حد الآن يقوم على زيادة الجهد وتحسين القدرات من أجل لعب دور أكثر فاعلية في صد القوارب غير القانونية.
من الضروري أن يفهم التونسيون وضعهم في هذه المعادلة، فهم ليسوا في وضع ضعيف وبلا أوراق، كما أنهم ليسوا في موقع من يتعالى على الدعم. منزلة بين المنزلتين تحتاجها تونس كما أوروبا للاستمرار في مسار الشراكة الذي توافقوا حوله منذ سنوات ما قبل الثورة، ولكل طرف فيه حقوق وواجبات.
لا يمكن انتظار أن تتولى أوروبا إغراق تونس في الدعم والمساعدات والاستثمارات، هكذا مجانا من دون أن تؤدي تونس أدوارها في مقاربة الشراكة، ومن بين هذه الأدوار التحرك بالجدية والقوة اللازمتين للتصدي لقوارب الهجرة.
صحيح أن الأمر فيه تعقيدات وصعوبات، وفيه حساسية، لكن العلاقات بين الدول تبنى على تبادل المصالح.
وبدلا من دعم الحكومة في لقاءاتها مع الأوروبيين ومساعدتها على تحسين شروط التفاوض لتحسين مكاسب أكبر، فإن بعض التونسيين المهووسين بنظرية المؤامرة يعمدون إلى التشويش على تونس وعلى أنفسهم بالحديث عن توطين اللاجئين الأفارقة، ما يمثل ضغطا سياسيا على حكومة نجلاء بودن وعلى الرئيس سعيد.
والمفارق أن بيان الثلاثاء، الذي يخوف من التوطين ويستعمل مفردات قوية وجازمة توحي وكأن الأمر صار باتا ولا تراجع فيه، صدر عن مجموعات ومنظمات معروفة بدعمها للرئيس قيس سعيد في مسار 25 يوليو 2021، لتعطي ورقة إضافية لخصومه بدلا من أن تدعم مساره التفاوضي مع الأوروبيين، خاصة أن الرجل كان يؤكد في كل مرة أن حكاية التوطين غير ممكنة وأنها تتعارض مع السيادة الوطنية.
ويوم الاثنين، وبعد لقائه بوزيري داخلية فرنسا وألمانيا أكد الرئيس التونسي أن بلاده “لن تقبل أبدا بأن تكون حارسة لحدود أي دولة أخرى كما لن تقبل بتوطين المهاجرين في ترابها”، وحث على “اعتماد مقاربة جديدة بخصوص ظاهرة الهجرة غير النظامية تقوم على القضاء على الأسباب لا على محاولة معالجة النتائج”.
هناك حالة انفصام تونسية في التعامل مع قضية اللاجئين والدعم الأوروبي، فإما دعم مقابل شراكة في التصدي للهجرة أو الكف عن اتهام أوروبا بالتخلي عن تونس في ظروفها الصعبة. كما أن ثقافة معاداة أوروبا التي تسيطر على الوعي الجمعي التونسي لا يمكن لأصحابها أن يطلبوا من إيطاليا أو فرنسا أو ألمانيا الدعم والتأشيرة والشغل والحياة المريحة، وإلا كان هذا وجها من وجوه الانفصام في الشخصية.
فما معنى أن يرفع الناس شعار “ممنوع توطين الأفارقة” في تونس، وفي نفس الوقت يطالبون أوروبا بتوطين التونسيين لديها ويهاجمون الحكومة التونسية لأنها قبلت باستعادة البعض ممن هاجروا سرا إلى إيطاليا أو فرنسا.