مواجهة الأزمات ليست مهمة قيس سعيد لوحده
وفر اهتمام الرئيس التونسي قيس سعيد بالظروف الصعبة التي يجدها الناس للتنقل في حياتهم اليومية بسبب الفساد، الذي يسيطر على الشركة الموكولة إليها مهمة توفير خدمات نقل مريحة للناس، فرصة للحكومة لكي تخرج من المكاتب إلى حياة الناس وتقف على أوضاعهم وتسعى لتطويرها وتأكيد أنها لم توجد إلا لخدمتهم، فمواجهة الأزمات ليست مهمة قيس سعيد لوحده.
الرئيس سعيد لم يعد يقبل أن جهده منذ 25 يوليو 2021 لتطوير واقع الناس قد وقف عند نقطة الانطلاق وأن معاركه التي يخوضها في كل اتجاه ضد المحتكرين ولوبيات النفوذ المختلفة لم تفض إلى نتيجة يراها الناس في حياتهم.
من المفترض أن سنتين وأكثر من الإمساك بكل الصلاحيات السياسية والإدارية والأمنية والعسكرية وقت كاف لبداية التغيير الذي يمسّ الناس مباشرة في التفاصيل الحيوية مثل قطاع النقل، الذي يعد أمّ المشاكل في تونس بسبب تقادم الأسطول وعجز الدولة ماليا عن تجديده بسبب ظروفها المالية وصعوبة التمويلات في الوقت الحالي.
لكن قصة قطاع النقل العمومي طويلة ومعقدة وتتعلق بالإهمال والتلاعب بالمال العمومي والفساد من دون رقابة ولا خوف من القانون والقضاء ومن أجهزة الدولة. قطاع يجمع أموالا كبيرة، لكن لا أحد يعلم أين ذهبت وكيف صرفت، ولماذا تترك الحافلات دون أن يتم إصلاحها والاستفادة منها وشراء حافلات جديدة في صفقات مشبوهة. والمثير أن الدولة تقر مع نهاية كل عام ميزانية جديدة تضخّها للقطاع فيعاود نفس الأزمة سنويا.
هذا الوضع المعقد أشار إليه قيس سعيد بقوله ”من ثم يقولون إنّ الشركات والمؤسسات فالسة.. والملايين من الدينارات ملقاة على الطرقات ونحن نبحث عمّن يقرضنا لتمويل الميزانية.. هذه جريمة في حق الشعب التونسي”. ويضيف ”هم يريدون التفريط في المرفق العمومي للنقل والاستيلاء على الملك العمومي (..) بعض اللوبيات تريد اضمحلال النقل العمومي من تونس”.
لا يمكن تبرير هذا الوضع بأيّ صيغة كانت، لا بمحدودية إمكانيات الدولة ماليا، ولا بضعفها سياسيا، ولا بعجز آليات الرقابة. الأمر يتعلق بوجود إرادة سياسيا لتفح ملفات مهملة لعقود ومتروكة للوبيات تفعل بها ما تريد، هناك من يخطط لإفشال المؤسسة ودفعها إلى الإفلاس من أجل التفويت فيها للقطاع الخاص.
وهناك شق آخر يحرص على الإهمال بشكل منهجي حتى يستطيع التفويت بشكل غير معلن من خلال بيع قطع الغيار واستبدال الحافلات الحالية بأخرى في أسوأ حال ليعيد نفس اللعبة باستمرار، فالشركة تشتري وهو يبيع قطع الغيار ويضعها في جيبه وفق سياسة طويلة النفس تتداخل فيها أطراف كثيرة محمية من داخل الشركة ولا يقدر أيّ مسؤول جديد مكلف من الحكومة أن يفعل شيئا، وليس لديه من خيار سوى القبول بالوضع الراهن والاستفادة منه، أو أن ينتقل إلى مؤسسة أخرى.
المشكلة أن إثارة هذه الملفات تتم بشكل عرضي وضمن مقاربة الرئيس سعيد السياسية التي تقوم على المعارك الكبيرة، وهي تعجب الناس ويتفاعلون معها، لكنها لا تغير حالهم لأن الرئيس هو من يتحرّك، والحكومة تكتفي بالسير وراءه، ويظل الأمر مجرد أمنيات سياسية.
يعرف الرئيس سعيد أنه لا يمكن الاكتفاء بالمعارك الكبيرة ونسيان المعارك الصغيرة التي هي في الأصل ما يحدد شعبيته ويعطيه الدفع الذي يريده للاستمرار بحماس في مواجهة لوبيات النفوذ، التي تضع أيديها على كل شيء وتعيق المشاريع وتسعى لإفشال وعوده وتعهداته، بتفكيك الكارتلات خاصة في القطاعات الحيوية مثل قطاع الحبوب.
ومن المهم أن يتحرك قيس سعيد ليقترب من الناس ويشعروا بأنه منهم وإليهم، وأنه ليس كمن قبله يتقن الكلام الكثير ويطلق الشعارات يمينا ويسارا ويتوقف عن اللقاء بهم من الانتخابات إلى الانتخابات.
زيارة الأسواق وسماع آراء الناس في الأسعار وتقبّل انتقاداتهم لأداء الحكومة، ولقاء عاملات الفلاحة، والدعم الذي قدمه لنصف مليون تلميذ، كلها عناصر توضع في سجله كرئيس مختلف عمّن سبقه من مسؤولي دولة وقادة أحزاب ونقابات ممن عرف التونسيون عنهم المزايدات والوعود ولم يروا أثرا لأيّ فعل.
لكن تحويل الاهتمام بالناس والرغبة في التغيير إلى واقع عملي فعّال تُرى نتائجه على الأرض يحتاج إلى أن تتحرك الدولة بكل أجهزتها، وأن تتحرك الحكومة وتلعب دورها وتأخذ المبادرة في كل اتجاه، وأن تتحول كل وزارة إلى دولة قائمة الذات لتطارد الذين يعرقلون وتحدّ من نفوذ لوبيات الفساد والرشوة وتفكيك البيروقراطية التي تقف بوجه رغبة الإصلاح التي يظهرها الرئيس.
ويبقى أن الأهم هو الدفاع عن مصالح الدولة بالقانون، وعدم القبول بوضع يشعر فيه الوزير أو المسؤول المكلف بأنه ضعيف وبلا تأثير، وأن ماكينة الفساد والبيروقراطية أكبر منه.
وبدلا من أن تطبق الحكومة القانون كانت تلجأ إلى المهادنة وخفض الجناح، وهو ما كانت اللوبيات ترى فيه ضعفا، وتمرّ إلى المزيد من الإرباك والمناورة بالسعي إلى شراء ذمم المسؤولين في خطوة أولى وإدخالهم إلى قلب الرحى، وإذا فشلت فإن الخطوة التالية تكون بوضع العراقيل أمام أيّ مسؤول يتمسّك بدوره، بافتعال الأزمات والتعطيل والدفع إلى الإضراب أو الاعتصام وعرائض التشهير.
والأمر نفسه بالنسبة إلى العاملين في الإدارة، فإن تطبيق القانون بقوة يجعلهم يشعرون بأن ثمة دولة يمكن أن تتقصى وراءهم وتعد التقارير وتحاسب، وأنها لا تهاب شيئا، وأن المتجاوز سيكون مآله السجن.
تحوّلت الإدارة في السنوات الماضية إلى ماكينة تعطيل كبرى لعمل الدولة، سواء بشكل عملي من خلال الإضرابات وفرض زيادات في الرواتب أو علاوات رغم أنف الحكومة، أو من خلال التمرد على القرارات والتوجيهات الهادفة إلى تسريع الإجراءات لفائدة المواطن أو المستثمرين، والتمسك بنظام بيروقراطي بطيء ومعرقل لأيّ مساع تهدف إلى تطوير أداء الإدارة واعتمادها على الرقمنة.
لا يمكن للوزير أن يقبل بوضع تسيطر فيه الكارتلات على قرار وزارته، ولا أن يقبل بالفوضى في الإدارات التي تتبعه، وعليه أن يتحرّك ليراقب ويدقق ويسأل ويعاقب حتى يشعر الموظفون بوجوده ويهابوه. والأمر نفسه لوزراء الشؤون وللمدراء العامين والمحافظين والمسؤولين المحليين على مختلف رتبهم.
تحتاج الدولة إلى أن تتحرك ككتلة واحدة في وجه الفساد والبيروقراطية وأن تستعيد القرار بيدها بدلا من التفويت فيه للوبيات لا تفكر سوى في مصالحها، ولا تسمح بأيّ تغيير من أيّ جهة كانت. هي فرصة قد لا تتكرر من أجل أن تنجح الدولة في تحقيق انتصارات فعلية على كارتلات لا تُرى بالعين، لكنها تتحكم في كل شيء، من تعيين المسؤول الصغير إلى المسؤول الكبير، إلى وضع الخطط وتنفيذها.