موسم الهجرة من إسرائيل… وإليها
في مقال عنوانه “هل يمكن لإسرائيل أن تنجو من ديكتاتورية مسْيانية؟”، يحاول الكاتب الإسرائيلي يوفال هراري أن يتخيّل العالم اليهودي مستقبلاً، إذا نمت “الميول الحالية” وتحوّلت إسرائيل بسببها ثيوقراطيةً. ويرى أنّه في هذه الحالة “قد يندثر التيّار العلماني اليهودي، على الأقلّ داخل إسرائيل. ففي داخل هذه الحدود سيكون نظام قهر ديني، نظام رقابة وغسل أدمغة. ساعتها لن يكون بمقدور تلك الجماعات الاستمرار في الحياة ضمن هذه الحدود، هي المتمسّكة بالتسامح والمساوة والحرّية. وكما حصل مع اليهود الذين لفظتهم إسبانيا الكاثوليكية، سيكون هناك من تسمح له إمكاناته فيهرب، وعلى من لا إمكانات لديه أن يعتنق الديانة المسْيانية المُتطرّفة”. ويتابع أنّه في هذه الحالة سيكون هناك انشقاق بين الذين يحكمون إسرائيل اليوم ويذعنون للعقيدة الدينية، والذين يرفضونها بالمطلق” (يرى التيّار المسْياني أنّ الحرب في غزّة ليست ضرورية وحسب، إنّما مطلوبة، لأنّها جزء من مخطّط إلهي لإعادة أراضي إسرائيل بأكملها إلى اليهود، وبالتالي إطلاق عملية الانبعاث، وعودة المسيح).
يأتي مقال هراري في سياق شهادات وتحقيقات تصبّ كلها في عملية “النزول” (اليريداه بالعبري)، أي هجرة اليهود من إسرائيل، وهي عكس “الصعود” (العاليا بالعبري)، أي الهجرة إليها. والعبارتان من قاموس الوكالة اليهودية للهجرة. هناك عنوان آخر، في الشهر الماضي (أغسطس/ آب)؛ “في عالم ما بعد 7 أكتوبر، لا توجد أرض ميعاد لليهود”، يتكلّم فيه صاحبه عن العوامل التي تدفع الإسرائيليين إلى الهجرة، بلغة ملؤها الحيرة والشكّ والحزن، ويقول إنّ “مذبحة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) سمحت بتخيّل تدمير إسرائيل، ودفعت كثيرين إلى إعادة النظر بالعقد الذي أبرمه المواطن مع الدولة. وعقد الأمن هذا هو مبرّر وجود إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948”. وتتوالى شهادات، ويُذكّر تحقيق مطوّل، عن عودة فكرة “اليهودي الغريب”، بأنشطة ثقافية تدلّ على توسّع الهجرة “الثقافية” من إسرائيل، مثل تلك المجلّة الأدبية اليهودية التي تصدرها الشاعرة دوري مانور، المتخصّصة بالدياسبورا (الشتات) اليهودي، التي تلاحظ أنّ عديدين من كتّاب اللغة العبرية يعيشون خارج إسرائيل، وأنّ جزءاً مهمّاً من الأدب العبري يُكتب ويُقرأ خارج حدود إسرائيل.
هناك ندوات في برلين ينال فيها المنفى صفةَ الجاذبية المُتجدّدة، ثمّ ذيوع كتاب “ضرورة المنفى”، لليهودي الأميركي شول ماجيد، وهو يلتحق بكاتب آخر، دانيال بوياريم، الذي يبشّر بالمنفى منذ عشرات السنوات، ومحاولات لكتابة تاريخ تيّار المنفَى ذي الجذور القديمة، ومقارنته بتاريخ الصهيونية التي بدأت فكرةً، مُجرَّد فكرةٍ، مع كتّابٍ وشعراءَ أصحاب مُخيّلة. والقصد من التأريخ والمقارنة القول إنّ كلّ حركة تاريخية؛ كلّ ظاهرة تبدأ بفكرة؛ “والآن، فكرة المنفى أصبحت ملموسةً، ويكفي الانتباه إليها، يدعمها انسداد الأفق في إسرائيل، واستحالة الاستمرار بالسيطرة على ملايين الفلسطينيين محرومين من حقوقهم، واستحالة تقسيم البلاد بين دولتين، والأكثر من ذلك استحالة إقامة دولة واحدة لمواطنيها كلّهم. يبقى الحلّ هو المنفى، أي عودة اليهود إلى ما كانوا عليه طوال تاريخهم: (الحلّ هو اللادولة)”. واللائحة لا تنتهي هنا. الأطبّاء لهم أيضاً مُهاجروهم، وكذلك أساتذة الجامعات، وهي هجرة يصفها أحد الكُتّاب بـ”هجرة أدمغة، كأنّنا صرنا من بلدان العالم الثالث”. وهناك أرباب العائلات، وشباب، ومقابلات شبه أسبوعية مع مسافرين قرّروا الهجرة المؤقّتة أو الدائمة. يسألهم الصحافي عن سبب خروجهم من إسرائيل، ويجيب معظمهم بشيءٍ من الأسى بأنّهم لم يعودوا يستطيعون تحمّل قلّة الأمن، ولا الحرب، ولا ضيق العيش.
يستعيد كثيرون لحظاتٍ مشابهةً قبل أكثر من سنة عشية “طوفان الأقصى”، عندما قامت الدنيا بالتظاهرات والاعتصامات احتجاجاً على مشروع بنيامين نتنياهو بالقضاء على القضاء. يقولون اليوم: “يومها، كان المعارضون يصرخون، ويهدّدون، بأنّهم سوف يهاجرون إذا نجح انقلاب نتنياهو على القضاء. ولكنّ القليلين منهم نفّذوا تهديداتهم”. أمّا اليوم فالهجرة أصبحت رغبة يهودي واحد من أصل أربعة، سوف يتركون إسرائيل إذا توفّرت لهم الإمكانات. هذا ما خلص إليه تحقيق أجراه معهد سياسة الشعب اليهودي، المنشور منذ بضعة أيّام، لافتاً إلى أنّ الهجرة هي للأكثر قدرةً من بين الإسرائيليين. أشار المعهد إلى أربعة أسباب لهذه الهجرة؛ الحرب مع “حماس” تدفع غالبيةً ساحقةً قلقةً جدّاً من هذه الحرب؛ الثقة بالحكومة تراجعت مع استمرار الحرب، فمنذ عامين كانت الغالبية تركّز على “أخلاقيات”، وصارت اليوم تُؤكّد على المصلحة أولويّةً، والأخلاق في الخلف؛ اهتزاز الثقة بالجيش، فرغم أنّه الأقلّ تعرّضاً للنقد، لكن الثقة بقادته تراوح بين ضعيفة وضعيفة جدّاً؛ والانقسامات، منها بخصوص الرهائن بين وسطيين و”يساريين” يعطون الأولوية لتحرير الرهائن، ويمينيين يضعونه خلف أولوية مطلقة واحدة، هي سحق “حماس”، والانقسام نفسه حول الإذعان لأميركا الحليفة مع يمين لا يُلغي التحالف، ولكنّه يرفض “الإذعان” لوجهة النظر الأميركية، والانقسام بشّان تجنيد “الحسيديم” (دارسي التوراة) في الجيش، وانقسام يخصّ موضوعنا، أي الرغبة في الهجرة من إسرائيل، المرتفعة في وسط اليهود اليساريين والعلمانيين، وتصل حتّى 4% لدى اليهود المتدينين.
في المقابل، هناك يهود يقومون بـ”العاليا”، أي يهاجرون إلى إسرائيل، وهم من المعسكر الديني المسْياني. قبل “الطوفان”، ولدى اندلاع حرب روسيا على أوكرانيا، هاجر إلى إسرائيل عشرات الآلاف من الأوكرانيين والروس، هم الذخيرة الإنسانية الحيّة لليمين المتديّن المسْياني. الآن، يكاد عدد هؤلاء القادمين الجدد إلى إسرائيل يتساوى مع عدد المهاجرين منها. عشرات الآلاف من اليهود ولدوا وعاشوا في أميركا والغرب الأوروبي، وضاق هناء العيش بهم، وتزايدت من حولهم الميول اللاسامية، والعداء للصهيونية، ويخشون انهيار الديمقراطية الغربية، التي وحدها حمت اليهود في العصور الماضية (وهو خوف تاريخي)، ومن حولهم متضامنون تماماً مع إسرائيل في حربها على الفلسطينيين… هذا كلّه دفعهم إلى المجيء.
يقول العائدون إلى إسرائيل عن رحلتهم هذه إنّ المنفَى الذي يدعو إليه المهاجرون منها ليس سوى تمرين عقلي “قليل الجدّية”، وإنّ إسرائيل ليست فكرةً مجرَّدة يمكننا التخلّي عنها لغرض أكاديمي، وإنّ بعض “مفكّري المنفى” يبدو أنّهم بصدد تصفية حساب شخصي أوديبي (عقدة أوديب) غير سياسي مع أهلهم المتجذّرين في “الاستبلشمنت الصهيوني”، غالبيتهم لا يملكون جواز سفر أو وظيفة في إحدى الجامعات الأميركية المرموقة، وفكرتهم عن المنفى “تشبه رؤية الملياردير الأميركي إيلون ماسك بالاستيطان في كوكب المرّيخ إنقاذاً للبشرية”… وماسك سوف يعيش بعد كوارث الأرض، “ولكن ماذا عنّا؟ عن البقية؟”. ويتابع المتحمّسون للعودة إلى إسرائيل: إنّ دعاة المنفى “فرديون، خصوصيون، نُخبَويّون، ومن النُخْبَة المُتعلّمة. واهتمامهم كلّه مُنصَبّ على أنفسهم وعلى عائلاتهم … لا يؤمنون بالعمل الجماعي”.
هذا غيض من فيض نقاش خلفي يدور في إسرائيل، ولا يُراد له ربّما لَفْت الأنظار لأن تكون إسرائيل اليوم بصدد تبديل سكّانها من فئات إلى أخرى، بين مُعتدلين، سلميين، علمانيين، يرحلون عنها، ويُستبدَلون بمسْيانيين جدد، ويستقبلهم أقرانهم بالترحاب والتسهيل. وتتضخّم هكذا مع الوقت، ومع استمرار الحرب، نسبة الداعين إلى حرب أبدية باسم الدين الخالص الصافي، من دون اجتهادات ولا “إصلاحات”، وتحت راية “عودة المسيح”.
وهذه رؤية لها نظيرها عندنا. إنّها ظهور المهدي، أو المهدي الذي لا يمكن انتظاره بالقعود، إنّما بالسيف والدماء. ويبدو أنّ “حماس” دخلت في سكّة هذا الانتظار، ولا تتوقّع بعد ذلك غير الحشود المؤمنة بالموت في الحرب حتّى نهاية الزمان.