نقاش في خطاب الرئيس الفلسطيني أمام القمة العربية

لم يكن لدى الرئيس الفلسطيني محمود عباس ما يقوله في مؤتمر القمة العربية الطارئة في القاهرة، والتي عقدت بغرض إيجاد حل، أو مخرج، من الكارثة التي نجمت عن حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، سوى تأكيده الذهاب نحو انتخابات رئاسية وتشريعية وإصلاح الوضع الفلسطيني، وتعيين نائب له في المنظمة والسلطة و«فتح»، واستعادة لحمة حركته، بمراجعة قرارات الفصل التي اتخذت بحق مئات من قياديي وكوادر ومنتسبي «فتح»، الذين تم اتخاذ قرارات فصل في شأنهم خلال العقدين الماضيين.
المشكلة أن هذا التوجه، على إيجابياته، وأهميته، أتى متأخرًا جدًا، وبعد أن حلت الكارثة على الكيانات السياسية الفلسطينية، وعلى الشعب الفلسطيني، بخاصة في غزة والضفة، ثم إنه أتى نتيجة ضغوط خارجية، وليس كاستجابة للضرورة، أو للمطالبات الداخلية، مع عدم التيقن من إمكان انفاذ كل تلك التوجهات من الناحية العملية، تبعا لدروس التجربة الماضية.
بديهي أن المنظمة والسلطة و«فتح» تعاني من مشكلات كثيرة، عميقة، وشاملة، وهي بحاجة إلى إعادة بناء وتفعيل، بيد أن المركز في تلك العملية يفترض أن يتأسس على إمكان استنهاض حركة «فتح»، إذ بناء عليها يمكن استنهاض المنظمة والسلطة، بحكم مكانة حركة «فتح» فيهما.
بيد أن «فتح»، بدورها، تعاني من مشكلات، وثغرات، عديدة، يكمن أهمها في التالي:
أولا: تفرّد قائدي الحركة، أي أبو عمار، وبعده أبو مازن، بكل صغيرة وكبيرة، في شؤون تلك الحركة، بخاصة ما يتعلق بتحديد خيارات «فتح» السياسية والكفاحية، وأوضاعها الداخلية، وعلاقاتها، وفي ذلك دلالة على غياب تقاليد القيادة الجماعية، والمشاركة في صنع القرارات.
ثانيا: افتقاد تلك الحركة للمأسسة، والحراكات الداخلية، وعلاقات التداول، فهي ليست حزبا، ولم تصبح جبهة، وظلت بمثابة جسم سياسي غير واضح المعالم، يتمحور حول الزعيم، أو القائد، مع هيمنة طبقة سياسية معينة، ما يحرم أجيال من الكوادر الشابة من أخذ دورها في سلم القيادة. وفي الواقع فإن جسم تلك الحركة لا يرتكز على التنظيم، وإنما على الأجهزة، حتى أن التنظيم يعتبر جهازًا من الأجهزة!.. ولاشكّ أن اللجنة المركزية، في وضع كهذا، تبقى مركز القرار ومصدر السلطات، فهي التي تتحكم بإدارة الأجهزة الحركية (القوات ـ المالية ـ الإعلام ـ التعبئة والتنظيم..الخ).
ثالثا: بعد إقامة السلطة (1994)، بموجب اتفاق أوسلو، تحولت «فتح» من كونها حركة تحرر وطني إلى سلطة، وباتت بمثابة حزب للسلطة، مع كل ما في أية سلطة من مشكلات وثغرات وشبهات وعلاقات زبائنية، ما يفيد بأنها تواجه معضلات التناقض بين حفاظها على طابعها كحركة تحرر وتحولها إلى حزب للسلطة، فلكل أمر استحقاقاته ومتطلباته، ومن الصعب في حال حركة مثل «فتح» على هذا القدر من الانفلاش تحقيق المواءمة بين هذين الاستحقاقين، وهو ما يتطلب وقفة جادة لإيجاد معادلة تمكن الحركة من إيجاد التناسب بينهما.
رابعا: لم تنجح «فتح» في تجسيد رؤيتها السياسية المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، إن بسبب التملصات والاعتداءات الإسرائيلية، أو بسبب الانقسام الحاصل في الجسم الوطني الفلسطيني، بقيام سلطة «حماس» في غزة، كما بسبب ترهل جسم «فتح»، وافتقاده بناها للأهلية الكفاحية. أيضا، وبالمثل، فإن «فتح» لم تستطع الحفاظ على مكانتها، أو هويتها، كحركة مقاومة، لا شعبية ولا مسلحة. وفي المحصلة فهي لم تستطع تمثل التحولات السياسية المرتبطة بالانتقال إلى مرحلة التسوية والمتعلقة بإقامة دولتين لشعبين، كما لم تستطع تمثل التحولات السياسية الدولية والإقليمية في تفكيرها السياسي وطريقة إدارتها للصراع ضد إسرائيل.
خامسا: تهرب قيادة «فتح» من إجراء أية عملية مراجعة لأوضاعها وسياساتها وخياراتها وطرق عملها لا سيما بعد العودة للداخل، ونشوء وضع «سلطوي» جديد، عزز من المركزية فيها، كما أنها لم تراجع ولا مرة إخفاقها في الانتخابات التشريعية (2006)، وأسباب تراجع مكانتها مقابل صعود مكانة حماس، حتى بعد الانقسام الفلسطيني (2007)
سادسا: بدا أن قيادة الحركة استسهلت انتهاج سياسات زجرية أو قمعية ضد أي وجهة نظر مختلفة داخلها، ما أضعف الحركة، وأفاد منافستها «حماس»، وهو ما تجلى في خسارة «فتح» الانتخابات التشريعية (2006) نتيجة تشتت قوتها التصويتية، وما تجلى في ظهور عدة قوائم لفتح إبان الاستعداد لتنظيم انتخابات تشريعية (2021)، الأمر الذي أدى إلى إلغاء إجراء تلك الانتخابات، في حينه. ويجدر التذكير هنا بأن سياسة الفصل لم تكن متبعة إبان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، إذ كانت «فتح» حينها تفتخر بتعددية الرأي، وتنوع الاتجاهات، داخلها، مؤكدة على طابعها كحركة وطنية تعبر عن التعددية لدى شعبها.
أيضا، من المعروف أن اللجنة المركزية، وهي الإطار القائد لفتح، فقدت عددًا كبيرًا من أعضائها المؤسسين، إذ استشهد كل من: ياسر عرفات (2004)، وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار (1973 في بيروت) وخليل الوزير (1988 في تونس)، وماجد أبو شرار (روما 1981) وسعد صايل (أبو الوليد 1982 في البقاع)، وعبد الفتاح عيسى حمود (السلط 1969)، في عمليات اغتيال نفذتها إسرائيل؛ واستشهد صلاح خلف وهايل عبد الحميد في عملية اغتيال نفذها عضو من جماعة أبو نضال (1991 في تونس)، وكان أبو علي إياد استشهد عام 1971 (في الأردن). كما فقدت الحركة عددًا من قادتها بنتيجة المرض وهم: ممدوح صيدم وخالد الحسن وفيصل الحسيني، وهاني الحسن، وصبحي أبو كرش.
وبديهي فإن غياب هذا العدد الكبير من القياديين المؤسّسين عكس نفسه سلبا على الحركة، لاسيما أنها تعتمد على المركزية المطلقة في تحديد سياساتها والسيطرة على مواردها وإدارة أوضاعها، في حين أنها تنتهج ديمقراطية، تكاد تكون مطلقة، في مجالات الرأي وتشكيل المنابر أو الجماعات وفي إدارة أوضاعها وشؤونها اليومية.
أيضا، فإن «فتح» في تاريخها الطويل (60 عاما) لم تعقد سوى سبعة مؤتمرات، إثنان منها عقدا بعد رحيل ياسر عرفات، السادس (2009 بيت لحم) والسابع (2016 رام الله)، وذلك طوال أكثر من ثلاثة عقود من عمر السلطة، ما يفسر حال الضياع، وضعف المراجعة.
هكذا ثمة تحديات وتعقيدات كبيرة تواجه العمل الفلسطيني في هذه المرحلة، ولعل «فتح» بتاريخها ودورها وإمكانياتها مسؤولة أكثر من غيرها عن نفض التكلس والجمود والترهل في أوضاعها، للتمكن من قيادة الشعب الفلسطيني وتحويل تضحياته وبطولاته إلى مكاسب وإنجازات، بدلا من إبقائه أسير الشعارات والمزايدات والتوهمات؛ وفي الحقيقة فهذا ما تبقى لقيادة «فتح»، كي تفعله، بعد كل هذا الوهن والضياع، وتبدد الخيارات والتضحيات.