هؤلاء هم المهاجرون.. فكفوا عن اضطهادهم
علي قاسم
إن نحن تنقلنا في أحياء لندن، شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، من أنفيلد إلى ساتن وكرويدن، ومن هافرينغ إلى ريتشموند وهيلندن، ومن قلب العاصمة منطقة ويستمنستر إلى الأحياء المجاورة، كل ما نحتاجه هو قليل من الفضول لنكتشف أن جاليات العالم كلها تجتمع هناك. ومن بين تلك الجنسيات، الإنكليز، الذين حافظوا على وظائفهم الحكومية وأعمالهم في حي المال، واختاروا السكن على أطراف لندن، وفي قرى هادئة في الريف الإنكليزي.
تشكل الأقليات العرقية في عموم بريطانيا اليوم نسبة 14 بالمئة من مجموع السكان، وهي نسبة مرشحة للزيادة لتصل إلى ثلاثين بالمئة بحلول عام 2050.
ورغم أن لندن، التي تعتبر إلى جانب باريس من أهم مدن العالم جذبا للسياح، تدين بشهرتها إلى التنوع العرقي، حيث يجد السائح ضالته، لكن لا تزال الأقليات فيها تواجه تفرقة عنصرية “راسخة” في الكثير من مناحي الحياة، حسب تقارير صادرة عن هيئة المساواة وحقوق الإنسان في بريطانيا.
وقدمت التقارير، التي اشتملت على مقارنات في مجالات العمل والسكن والرواتب والعدالة الجنائية، صورة “مثيرة للقلق” عن الواقع في بريطانيا.
يشير أحد هذه التقارير إلى أن خريجي الجامعات، من الأقليات العرقية، يكسبون أقل بنحو 23 بالمئة عن نظرائهم من العرق الأبيض. ويذكر التقرير أن البطالة تنتشر بمعدلات أعلى بينهم.
الحال في المدن الألمانية لا يختلف عن لندن، حيث أعلن مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني يوم الأربعاء أن عدد الأفراد المنحدرين من خلفيات مهاجرة في ألمانيا وصل هذا العام (2019) إلى مستوى قياسي جديد.
وذكر المكتب أن عدد هذه الفئة تجاوز 20 مليون نسمة، أي أكثر من ربع عدد السكان بقليل.
وذكر المكتب أن 52 بالمئة من هؤلاء يحملون الجنسية الألمانية، بينما يشكل الأجانب نسبة 48 بالمئة منهم. والشخص المنحدر من خلفيات مهاجرة هو من كان نفسه أو أحد والديه على الأقل لا يحمل الجنسية الألمانية.
جميعنا تابع الأزمة التي واجهتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بسبب ما وصفه خصومها بالتساهل مع المهاجرين، وقاومت أنجيلا كل الضغوط، لأنها تعلم يقينا الدور الإيجابي الذي لعبه المهاجرون في النهوض بالاقتصاد الألماني، خاصة وأن المجتمع الألماني يواجه مخاطر الشيخوخة.
لا يمكن الحديث عن بريطانيا وعن ألمانيا دون المرور على دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، خاصة باريس، التي ساهمت بشكل كبير في الحياة الفنية والثقافية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وفتحت الأبواب وشرعت النوافذ لاستقبال المهاجرين.. فدونهم، مدينة الأنوار، كانت ستتحول إلى عتمة مطبقة.
الدور الذي لعبه المهاجرون في عصر النهضة الإيطالية لا يمكن إغفاله أيضا، وكون البندقية (فينسيا)، الميناء التجاري، مركزا لتلك النهضة أمر له دلالة.
يطول الحديث، إن نحن تطرقنا إلى حضارات عديدة ما كان لها أن تلعب الدور المميز الذي لعبته لولا قبولها للمهاجرين.. هل كان للحضارة الإسلامية أن تزدهر لولا احتفائها بمهاجرين مهرة في الفنون والعلوم والآداب.
وأميركا، التي يشن رئيسها الحالي حربا على الهجرة والمهاجرين، هي خليط من المهاجرين الأوائل المغامرين الذين لفظتهم بلادهم، فـ”حرقوا” في أول سفينة متجهة إلى الغرب المتوحش.
كان الإسبان أقدم المجموعات الأوروبية التي سكنت العالم الجديد، وشهد عام 1566 ميلاد أول طفل من أصل أوروبي هناك، تحديدا في سانت أوغستين، في ولاية فلوريدا. ويشكّل المواطنون من أصول أوروبية في الولايات المتحدة اليوم أكثر من 70 بالمئة، ويقدر عددهم بـ275 مليون نسمة.
ويعتبر الألمان حسب إحصائية تعود لعام 2009 أكبر مجموعة أميركية من أصول أوروبية تتجاوز نسبتهم 16 بالمئة، يليهم الأيرلنديون، 11 بالمئة، ثم الإنكليز، 9 بالمئة، والإيطاليون ستة ونصف بالمئة تقريبا، وتشكل هذه المجموعات مجتمعة نسبة 44 بالمئة من مجموع سكان الولايات المتحدة.
وليس من قبيل الصدف، والحال هكذا، أن يكون جد الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، الذي استبق دخوله البيت الأبيض بشن حملة على المهاجرين، مهاجرا ألمانيا، من ولاية راينلاند بفالز، هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1885، وحصل على الجنسية الأميركية عام 1892.
الحضارة الأميركية المتسيدة، ما كان لها أن تسود لولا إسهامات المهاجرين، وقوارب الموت هي في حقيقة الأمر قوارب للحياة، يبحر بها شبان شجعان عطشى للنجاح ذاقوا مرارة الحاجة والفاقة.
كل ما ذكرناه عن الهجرات يعود إلى تاريخ قريب نسبيا، المئات من السنين. بينما ظاهرة الهجرة أقدم من ذلك بكثير، والفضل يعود إلى تلك الهجرات في إنقاذ النوع البشري.
منذ مليوني عام، خرج الإنسان من موطنه الأصلي في أفريقيا، في اتجاه الشمال، عبر القرن الأفريقي متجها صوب الجزيرة العربية، ومنها إلى أوراسيا، مدفوعا بتغيرات جيولوجية كبيرة في ذلك الحين.
وقد وجدت آثار تدل على وصول الأفارقة إلى شرق آسيا، في باكستان، كما وجدت آثار في تل عبيدية قرب بحيرة طبريا في فلسطين، تعود إلى حوالي مليون ونصف المليون عام.
الهجرة الأكبر أثرا، والتي يعود لها الفضل في الحفاظ على النوع البشري، انطلقت أيضا من أفريقيا، قبل حوالي سبعين ألف عام، باتجاه الشمال، حين دخلت الأرض فجأة في حقبة جليدية، جعلت ظروف الحياة قاسية جدا للعيش. وتشير الأدلة إلى حدوث انخفاض حاد في عدد السكان آنذاك، حيث وصل إلى ما يقارب عشرة آلاف فرد فقط.
كنا نحن البشر على شفير الانقراض، وكانت الهجرة طوق نجاتنا.
وقد يكون من قبيل الصدف البحتة، أن أفريقيا مازالت تشكل المعبر الرئيسي للمهاجرين، ففي عام 2017 وصل 150 ألف مهاجر إلى أوروبا عبر المتوسط، انطلاقا من شمال أفريقيا، ورغم تشديد الحكومة الإيطالية اليمينية الشعبوية، وتشديد دول الاتحاد الأوروبي، لم تتوقف قوارب “الحياة” عن عبور المتوسط.
هؤلاء هم المهاجرون.. فكفوا عن اضطهادهم.