هكذا تسبب إخونجية السودان في كارثة السيول
دمرت السيول العارمة التي اجتاحت منطقة الجزيرة في وسط السودان منذ أيام جراء الأمطار الغزيرة مئات المنازل بمنطقة عبود التابعة لمحلية المناقل، وتسببت حتى الآن في وفاة 75 شخصا وإصابة 30 آخرين على مستوى البلاد، وتضرر وانهيار 12551 منزلا بشكل كلي و20257 منزلا بشكل جزئي، و33 مرفقا عاما و39 من المتاجر والمخازن، و1470 فدانا زراعيا، و321 مزرعة، و45 بستانا، ونفوق 117 من المواشي.
وأكد خبراء ومراقبون أن كارثة السيول التي تشهدها منطقة الجزيرة في وسط السودان والتي دمرت آلاف المساكن في أكثر من 30 قرية ونصف المساحات الزراعية؛ تظهر أحد أقبح أوجه فساد تنظيم الإخونجية خلال الأعوام الثلاثين لفترة حكمهم والتي شهدت تدميرا وفسادا وإهمالا ممنهجا طال كافة بنيات مشروع الجزيرة الذي يعتبر الأكبر في العالم الذي يروى بالري الانسيابي.
وأشاروا إلى أن أهم الأسباب التي فاقمت من حدة الكارثة هي تحطيم مصدات الحماية في القنوات الرئيسية ومصارف التنفيس، وتسليم إدارتها لشركات يمتلكها نافذون في التنظيم بدلا من هيئة الري والحفريات التي كانت لعقود طويلة تضطلع بالمهمة بمهنية عالية؛ دون الأخذ في الاعتبار بالمخاطر المستقبلية والتي حدثت بالفعل خلال الأيام القليلة الماضية حيث ابتلعت السيول قرى بأكملها.
تخريب الإخونجية
ويؤكد خبير الري والخزانات أبوبكر مصطفى أن منطقة الجزيرة والمناقل من المناطق القليلة في السودان التي تمتعت لفترة طويلة ببنية تحتية قوية؛ لكن تلك البنية تحطمت وأنهكت بشكل كبير بعد مجيء الإخونجية للحكم في العام 1989.
ويقول مصطفى، إن الإخونجية عملوا بشكل ممنهج على تدمير مشروع الجزيرة الزراعي بعد إيكال المهام التي كانت تقوم بها هيئة الري والحفريات منذ إنشاء المشروع في العام 1925 إلى شركات تابعة لعناصر التنظيم ولا تمتلك الخبرة الكافية؛ مشيرا إلى تشريد معظم الكفاءات الفنية.
وعزا مصطفى اتساع حجم الكارثة إلى الإهمال الكبير في صيانة القنوات ومصارف التنفيس وهو الأمر الذي كان يتم في السابق وفق جدول زمني محدد ومعايير فنية صارمة.
من جانبه؛ يحمل فاروق البدوي عضو سكرتارية تحالف مزارعي مشروع الجزيرة والمناقل مسؤولية ما وصلت إليه كارثة السيول في منطقة المناقل لحكومة الإخوان التي عملت على تدمير بنيات المشروع بشكل ممنهج.
قضية جنائية بامتياز
ويقول البدوي، إن حكومة الإخونجية سعت منذ استيلائها على السلطة في العام 1989 إلى تفكيك المشروع وإضعافه؛ حيث قامت ببيع وتفكيك مؤسسات راسخة ورئيسية مثل إدارة الهندسة الزراعية، وهيئة الري والحفريات التي كانت تمتلك الإمكانيات الفنية واللوجستية اللازمة لمنع حدوث مثل هذه الكارثة بشكل استباقي وبناءا على معايير هندسية وفنية وخبرات تراكمت على مدار السنين.
ويرى البدوي أن الكارثة الحالية “يمكن أن تتحول إلى قضية جنائية بامتياز، إذ أنه لم يحدث هذا التلاعب الخطير بمقدرات أكبر مشروع من نوعه في العالم لكان بالإمكان تفادي 95 في المئة مما يحدث الآن مهما كان حجم السيول أو الأمطار أو تدفقات المياه.
وأضاف “تاريخيا ظلت هيئة الري والحفريات تنفذ أعمال الصيانة والحفر وردم الجسور الواقية في القنوات بما يسمح بالتعامل مع أسوأ التوقعات على عكس شركات الأعمال المتكاملة التي ملكت لنافدي نظام الإخونجية والتي تسلمت مهام هيئة الري والحفريات على أسس تجارية بحتة دون مراعاة أي جوانب فنية، وهو ما أدى إلى تحطيم البنية التحتية وفاقم من الكارثة الحالية”.
ويحكي محمد عوض الكريم “69 عاما”؛ وهو أحد سكان المنطقة المتضررين وعمل في مشروع الجزيرة قبل أن تعبث به ايادي الإخونجية؛ بحسرة شديدة عن الإهمال الكبير الذي شهدته بنيات المشروع خلال سنوات حكم الإخوان والذي أدى إلى تقليل كفاءة القنوات وقدرتها على صد السيول أو المياه الزائدة.
ويقول عوض الكريم، إن الدمار الذي تعرض له المشروع هو الذي أدى إلى الأضرار الكبيرة التي حدثت من سيول العام الحالي؛ موضحا “قبل أن يغير نظام الإخونجية طريقة إدارة المشروع ويمنح عقود صيانة ومتابعة قنوات الري لشركات يمتلكها نافذون لم يهتموا بأعمال الصيانة مما أدى إلى تدمير البنية التحتية بشكل مريع”.
وبحكم عمله المباشر في متابعة تدفقات المياه في القنوات الرئيسية، يشير عوض الكريم إلى أن إدارة الري والحفريات كانت تقوم بكامل الاستعدادات اللازمة لحماية المناطق السكنية والزراعية قبل موسم الخريف والسيول بفترة كافية، وبالتالي لم تحدث كوارث مثل التي تحدث حاليا.
فساد القطاع العام
وطوال فترة حكم الإخونجية؛ طال الفساد العديد من المشاريع الزراعية ومؤسسات القطاع العام التي ساءت أوضاعها بشكل كبير في أعقاب إدراج السودان في قائمة البلدان الراعية للإرهاب في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي بسبب ضلوع التنظيم في عدد من الأنشطة الإرهابية واستضافته لعدد من المتطرفين والمتشددين.
ويقدر عبد الله عكود، وهو استاذ جامعي وباحث في أزمة مشروع الجزيرة، حجم الفساد والأضرار التي لحقت بالمشروع خلال الفترة من 1990 وحتى نهاية 2018 بأكثر من 100 مليار دولار.
وحتى سقوط نظام الإخونجية ظلت منظمة الشفافية الدولية تصنف السودان في المراكز الأربع الأولى كأكثر بلدان العالم فسادا، بعد أن كان يتمتع بسجل جيد قبل استيلاء الإخوان على السلطة.
وكان الفساد المهول الذي استشرى في البلاد بسبب تحول الحزب الحاكم إلى دولة داخل الدولة هو أحد أبرز محركات الحراك الذي أطاح بالإخونجية في أبريل 2019، إذ أفقد البلاد موارد مباشرة قدرها خبراء ومراقبون بنحو 750 مليار دولار وغير المباشرة بأكثر من 250 مليار ليصل الحجم الكلي للفساد إلى أكثر من تريليون دولار.
ويقول ياسر نقد، وهو من قدامى الزراعيين في مشروع الجزيرة، إن ما حدث من فساد في المشروع سيبقى في الذاكرة السودانية إلى الأبد حيث طال الدمار كافة المنشآت المدنية والهندسية وحتى الطرق والبنى التحتية المتميزة التي كان يوفرها المشروع الممتد على مساحة 2.3 مليون فدان.