هل تنتصر المؤسسة العسكرية الليبية على عراقيل الساسة؟
الحبيب الأسود
عندما نزل رئيس أركان الجيش الوطني الليبي عبدالرازق الناظوري في مطار معيتيقة، كان هناك شعور عامّ بأن العسكريين الحرفيين التراتبيين أبناء المدرسة العريقة التي تمثّل أحد أبرز أسس الوطنية الليبية، هم الأقدر على تجاوز الخلافات وطي صفحة الصراعات والتخلي عن الأحقاد والاتجاه نحو تكريس مفهوم المصالحة الوطنية الذي يبدو أن هناك من الأطراف الأخرى من لا يستسيغه ولا يرتاح إليه.
زيارة الناظوري إلى طرابلس لحضور اجتماع اللجنة العسكرية المشتركة، كانت ثرية باللقاءات والاتصالات التي تمت في سرية مطلقة، وشهدت طرح الكثير من المسائل المهمة لمستقبل البلاد المنهكة منذ 11 عاما، وتم الاتفاق خلالها على بعض القرارات التي ستظهر تباعا ولاسيما في ما يتعلق بالتنسيق الأمني والعسكري في مناطق التماس والإفراج عن دفعات جديدة من المحتجزين والأسرى وتنسيق جهود مكافحة الإرهاب، والتنسيق الإداري، وتبادل المعلومات والخدمات والزيارات، ووضع مشروع توحيد المؤسسة العسكرية في مقدمة الأهداف المطروحة خلال المرحلة القادمة، والتي ستكون منطلقا عمليا وواقعيا للمصالحة الوطنية.
ما كان للناظوري أن يصل إلى طرابلس وأن يلقى ذلك الترحيب لولا وجود تنسيق سياسي على أعلى مستوى وقرار حكومي من المهندس عبدالحميد الدبيبة باعتباره وزيرا للدفاع في حكومته المنتهية ولايتها، والممول الرئيسي للميليشيات المسيطرة على الأرض، ولولا ظهور بوادر توافقات بين الدبيبة وقيادة الجيش الوطني على جملة من الملفات، كان أبرزها خلال الأيام الماضية ملف الطاقة الذي شهد الإطاحة برئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله وتعيين فرحات بن قدارة بدلا عنه، ثم رفع القوة القاهرة عن مواقع الإنتاج والتصدير ومنها تلك التي كانت معطلة منذ منتصف أبريل الماضي، وأغلبها في حيز نفوذ المؤسسة العسكرية التي يقودها المشير خليفة حفتر.
ولا شك في أن المهندس الدبيبة يدرك جيدا أن قيادة الجيش تمسك بزمام الأمور في مناطق نفوذها، ولديها علاقات مؤثرة في الداخل والخارج، وهي قادرة على تحريك آلياتها لفرض خياراتها، ولا يمكن تجاوزها أو معاندتها أو تحديها بأساليب صبيانية كتلك التي كان قد اعتمدها خلال العام الماضي، وأراد من خلالها كسب ولاءات الميليشيات وأمراء الحرب وتيار الإسلام السياسي والثوريين المتطرفين على حساب المهمة الرئيسية التي أسندت لحكومته وهي توحيد الصف الوطني والخروج من نفق التمزق والانقسام.
وعندما نتحدث عن حالة الانقسام الحكومي، فإن الحكومة الجديدة المنبثقة عن مجلس النواب والتي تباشر عملها من مدينة سرت، ما كانت لتتشكل ولا لتحظى بثقة البرلمان ولا لتنشط في شرق البلاد وجنوبها، لولا الدعم المباشر الذي تلقاه من الجيش والذي جاء نتيجة قدرة رئيسها فتحي باشاغا وقائده العام خليفة حفتر على بناء جسور للثقة بعد الحرب الضروس التي كانا طرفين فيها، وفق تموقع كلّ منهما، وتم تخطّي حواجزها المادية والنفسية بعد المصافحة التاريخية بين الرجلين القويين في بنغازي في 21 ديسمبر الماضي عندما قررا أن ينهيا فترة الصراع بينهما، وأن يبحثا عن مخرج للأزمة في ظل الإعلان عن فشل كل الجهود التي بذلت لتنظيم انتخابات في الرابع والعشرين من ديسمبر 2021.
قبل أشهر قليلة لم يكن الدبيبة متحمسا لدور اللجنة العسكرية المشتركة، ولا قابلا للتواصل مع قيادة الجيش، وبلغ به الأمر حد الأمر بعدم صرف رواتب قوات المشير حفتر لأشهر عدة، وفي مناسبتين على الأقل، مما فرض تدخلا مباشرا من الأطراف الخارجية وفي مقدمتها واشنطن لحل المشكلة، وقد أدى ذلك الخلاف إلى حالة من القطيعة الشاملة التي لم يتم اختراقها إلا خلال الأسابيع الماضية بوساطة من دولة الإمارات العربية المتحدة التي احتضنت لقاءات بين ممثلي الطرفين، حيث أبدى فريق الدبيبة بعض التنازلات تحت ضغط التمدد الذي بات يشكله غريمه باشاغا على عدة مستويات وفي عدد من الجبهات.
منذ الاتفاق المبرم بين وفدي حكومة الوفاق والجيش المنخرطين في اللجنة العسكرية المشتركة “5+5” في أكتوبر 2020، والعسكريون الليبيون يسعون إلى ردم الهوة التي كان السياسيون وأمراء الحرب وراء حفرها لتقسيم المجتمع إلى فرق وطوائف وميليشيات وعصابات في إطار صراع على السلطة والثروة تم الاعتماد فيه على الاستقواء المباشر بالأطراف الخارجية التي لا تخفي أطماعها في البلاد ومقدراتها.
وقد نجح العسكريون بالفعل في التوصل إلى قرار وقف إطلاق النار بين طرفي النزاع في غرب البلاد وشرقها، وفي تحديد جملة أولويات لتطبيع الأوضاع وإعادة فتح الجسور بين أبناء الجغرافيا الواحدة، ومن خلال جهودهم تم تحقيق الكثير من الأهداف التي كانت تبدو مستحيلة في العام 2019 مثلا، لكن دور السياسيين عموما كان أقرب إلى التخريب الممنهج، فالصراع على الغنيمة الذي بدأت تمظهراته تتشكل عقب الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي أفرز نخبة سياسية لا هدف لها إلا خدمة مصالحها الشخصية والعائلية تحت يافطات فئوية وأيديولوجية وقبلية ومناطقية وإقليمية وحزبية، ولتحقيق ذلك أو للإبقاء عليه تحالفت مع أمراء الحرب والقطط السمان من أباطرة الفساد ولصوص المال العام وأرباب الاعتمادات والمتاجرين بالبشر.
وإلى حد الآن، لا يمكن الحديث عن سياسيين في مراكز القرار الليبي غير متورطين في تأبيد الصراع وعرقلة الحل السياسي، بما في ذلك مجلسا النواب والدولة، وحكومة الدبيبة، بينما يبدي العسكريون رغبة واضحة في طي صفحة النزاع عبر آليات واضحة أبرزها استعادة الدولة لسيادتها عبر توحيد مؤسستهم العريقة، وحل الميليشيات، وجمع السلاح المنفلت، وإجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة، وتحقيق المصالحة، وتنظيم انتخابات في سياق ديمقراطي تعددي يتسع للجميع نظرا لأن أيّ إقصاء لأيّ طرف سيعني مباشرة ديمومة الصراع.
لكن هذا التوجه، هناك من يرفضه، ولاسيما قادة الميليشيات والجماعات المسلحة التي تسيطر على العاصمة طرابلس وعموم مدن الساحل الغربي، والذين يعتبرون أنفسهم أوصياء على الدولة وثورة فبراير، وهم بالأساس متمتعون بامتيازات الأزمة ومنها نهب المال العام والإفلات من العقاب والتدخل المباشر في إدارة شؤون الحكم، بل إن العاصمة طرابلس مثلا تقع بالكامل تحت سيطرة الجماعات المسلحة، وكل ما يستفيد منه الدبيبة مثلا هو محاولة الاختراق المؤقت للصفوف بالاعتماد على الجزرة دون العصا في إطار توازنات يستغلها للإبقاء على سلطته تحت شعارات واهية، لا ترجمة لها على أرض الواقع إلا الاستمرار في الحكم، وهو بذلك لا يختلف عن بقية الفرقاء الفاعلين في المشهد السياسي العام.
زيارة الناظوري إلى طرابلس يمكن أن تكون فتحا مهما يتم البناء عليه، وسيكون لزيارة رئيس أركان المنطقة الغربية محمد الحداد إلى بنغازي خلال الأيام القادمة وقعها الكبير وخاصة إذا اجتمع مع المشير حفتر أمام كاميرات التلفزيون، وليس وراء ستار التعتيم كما حدث لاجتماعات الناظوري في طرابلس، ولكن ذلك لا يكفي، فجهود المؤسسة العسكرية ورغم جديتها وأهميتها تعاني من العراقيل التي يضعها أمامها السياسيون ممن لا يزالون مستفيدين من حالة انقسامها. القائد العام للقوات المسلحة رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي لم يجد إلى حد الآن الشجاعة الكافية ليجتمع بحفتر، أو ليزور مقار الجيش في المنطقة الشرقية مثلا، ووزير الدفاع في الحكومة التي من المفترض أنها حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة لم يبادر بأيّ حركة إيجابية علنية في اتجاه المؤسسة العسكرية وقيادتها العامة في الرجمة.
الحقيقة أن توحيد المؤسسة العسكرية هو ما يخشاه السياسيون، وطنية العسكريين لا تتلاءم مع فساد النخبة الحاكمة، ولكن الورقة الرابحة بيد الجيش هي أنه يحظى بدعم شعبي كبير وباحترام خارجي وبإرث تاريخي مشرّف ودور وطني مشهود، وبأنه قادر على تجميع صفوفه تحت قيادة واحدة يمكن أن تكون في أيّ نقطة من التراب الليبي شريطة أن يتجاوز حسابات المصالح الفردية أو الفئوية لفائدة الصالح العام، وإذا كان لا بد من مواجهة ميدانية، فعلى الجيش أن يخوضها متحدا ضد الميليشيات والإرهابيين واللصوص والخونة والمرتزقة ومصاصي دماء الليبيين.
عندما نزل الناظوري في مطار معيتيقة بطرابلس، حققت العسكرية الليبية خطوة مهمة على طريق توحيد صفوفها، ولكن تلك العسكرية تبقى صفة اعتبارية لا تترجمها على أرض الواقع إلا عزائم الرجال ممن سيكون عليهم الاتجاه نحو المزيد من الخطوات في سبيل تشكيل قوة الجيش القادر على إحداث التغيير الفعلي على الأرض بالانضباط المناقض لوضعية الفوضى، وبالتضحية من أجل الوطن في مواجهة من يضحّون بالوطن لخدمة أهدافهم وأهداف الواقفين وراءهم.