هل كانت إقالة رئيس حكومة تونس تستحق ضجة
اهتم التونسيون بشكل كبير بإقالة رئيس الحكومة أحمد الحشاني وأعطوها تأويلات كثيرة خاصة أنها تمت بشكل مفاجئ وارتبطت بنشره فيديو يتحدث فيه عن جرد لأهم نجاحات حكومته خلال عام واحد من توليه المنصب.
التأويلات، وأغلبها من باب صب الزيت على النار، ذهبت إلى وجود خلاف بين الحشاني وقيس سعيد، ولذلك أقاله في وقت غير متوقع. الرؤساء عادة لا يقيلون رئيس الحكومة قبل الانتخابات بأسابيع قليلة. والإقالة عادة تأتي بشكل آلي بعد الانتخابات وتتم إعادة تكليف رئيس الحكومة نفسه بتشكيل حكومة جديدة، أو بتكليف شخصية جديدة وفق برنامج جديد للمرحلة القادمة، وهو برنامج عادة ما يعبّر عن أفكار الرئيس الفائز لولايته.
فلماذا أقال قيس سعيد رئيس حكومته في هذا التوقيت، هل لوجود خلاف سياسي أو اختلاف في مقاربة أداء الحكومة أو أن هناك مشكلة في مسألة تداخل الأدوار وصراع على الصلاحية؟ هل هي لرئيس الدولة كما يضبطها دستور 2022 أم لرئيس الحكومة وفق مقاربة دستور 2014؟
لا يمكن الحديث عن خلاف سياسي بين قيس سعيد والحشاني، ومن البداية كان رئيس الحكومة المقال يظهر دائما في وضع من يقبل قرارات الرئيس ويدعمها سواء في اللقاءات المباشرة بينهما، والتي يكتفي فيها عادة بإجابات مقتضبة أو إيماءات رأس، أو في كلماته المحدودة بمناسبة ترؤس الاجتماعات الحكومية.
◙ التأويلات وأغلبها من باب صب الزيت على النار ذهبت إلى وجود خلاف بين الحشاني وقيس سعيد ولذلك أقاله في وقت غير متوقع
الحشاني رئيس حكومة تكنوقراط، ومن البداية كان يعرف أن مهمته تنفيذ ما يطلبه الرئيس، وتم تعيينه لمهمة واضحة، وهي تطهير الإدارة باعتباره كادرا إداريا متقاعدا، وهو الأقرب لفهم دواليب الإدارة وشبكات النفوذ وتعقيداتها، لم يكن الهدف من وجوده على رأس الحكومة حل أزمات تونس المختلفة، فهو لم يكن ينتمي لحزب، ولا مارس السياسة، ولا كانت له مواقف سياسية عدا تدوينات/ تغريدات انطباعية صغيرة على فيسبوك توحي بانتقاده لحركة النهضة والمنظومة التي أسستها بعد 2011، وهو ليس شخصية اقتصادية متخصصة ولم يعمل مع مؤسسات مالية دولية حتى يقال إنه يلتزم مقاربة ليبرالية في الإصلاحات الاقتصادية أو أنه يلتزم بإصلاحات صندوق النقد.
لم يظهر مرة في حوار مباشر ليتحدث عن مقاربة حكومته الاقتصادية ويجيب عن الأسئلة التي تتعلق بالإصلاح وموضوع العلاقة مع صندوق النقد، ومسار القروض ولماذا البنك الدولي وليس صندوق النقد، وموضوع المقاربة الاجتماعية للدولة التي يركز عليها قيس سعيد، والتي يتدخل فيها بشكل شخصي وباستمرار لتأكيدها وتنزيلها في شكل إجراءات.
ولأجل ذلك لم تكن إقالته مرتبطة بموقف أو اختلاف في التقييم، لكنها ترتبط بالتفاصيل والأداء حتى وإن قال كلاما مختلفا عمّا يقوله قيس سعيد في شأن أزمة الماء. ما قاله بشأن منسوب السدود والجفاف لم يكن خلافا، هو يتحدث كتكنوقراط يقرأ ما وصله من تقارير وزارة الزراعة التي حذرت خلال الأشهر الأخيرة من أزمة حادة.
لكن حقيقة أزمة المياه العميقة لا تنفي بالضرورة ما يمكن أن يحدث من عرقلة وتعطيل وإرباك لشبكات توزيع المياه في مناطق مختلفة من البلاد. وهو أمر معهود في تونس، إذا يلجأ البعض من المحتجين على صمت السلطات المركزية أو المحلية إلى أشكال احتجاجية مثل قطع الطرقات أو إتلاف شبكات نقل المياه من مدينة إلى أخرى. كما أن هناك تفاصيل كثيرة من الفساد تتعلق بموضوع المياه بهدف الاستئثار بمياه الشرب أو السقي بشكل غير قانوني.
ويتذكر الناس في السنوات الماضية كيف أن أيّ مواطن في أيّ مكان من البلاد بمقدوره عرقلة أيّ مشروع تقوم به الحكومة تحت أيّ ذريعة من مثل رفض المرور بأرضه أو أمام بيته، أو أن الحكومة عرضت عليه سعرا لا يرضيه مثلما حصل مع وقف مشاريع بعض الطرقات السيارة.
ولمّح الرئيس سعيد بشكل غير مباشر إلى أسباب إقالة الحشاني حين أشار عند استقباله الخميس رئيس الحكومة الجديد كمال المدوري إلى “ما ورد في الفصل السابع والثمانين من الدستور الذي ينص على أن وظيفة الحكومة تتمثل في مساعدة رئيس الجمهورية في ممارسة الوظيفة التنفيذية”.
ومردّ هذا التلميح إلى أن رئيس الحكومة المقال بدا في الكلمة المصورة التي قدم خلالها جردا لأداء حكومته مسترخيا يضع الساق على الساق ويتكلم بثقة عالية في النفس عن الحكومة ونجاحاتها، وكأنها مستقلة بذاتها.
وأفاض الحشاني في الحديث عن دور الحكومة وخططها لتحسين أوضاع الناس مستعملا مفردات من القاموس الذي يعتمده قيس سعيد عادة، مع الاكتفاء بإشارة أو إشارتين إلى أن ذلك تم بتوجيهات من “سيادة الرئيس”، وهو ما قد يكون فهم تقليلا من دور الرئيس سعيد الذي هو من يضع السياسات ويتدخل في التفاصيل ويتابع باستمرار من أجل تأمين تنفيذ ما يطلبه.
◙ الحشاني كلّف بمهمة ولم ينجح فيها، وما بقي ليس سوى تفاصيل مثل توقيت إقالته ولماذا قبل الانتخابات وليس بعدها
يفترض أن رئيس الحكومة ووزراءه يعرفون أنهم في نظام رئاسي وأن دورهم تنفيذي وليس مطلوبا منهم اختراع العجلة، حيث يحكم الرئيس سيطرته على مختلف التفاصيل ويوجه بتنفيذها حسب رؤيته لأنه سيحاسب عليها في الأخير خلال الانتخابات. هذا الوجه الأول للإقالة، ويخص محدودية الأداء والمبادرة وعدم استيعاب اللحظة السياسية في حديثه عن الماء ما وفر مادة للمعارضة للهجوم على قيس سعيد قبل الانتخابات.
أما الوجه الثاني فيتعلق بموضوع الإدارة الذي جاء لتطهيرها ومواجهة “إرهاب الكارتلات”، مثلما جاء في كلمة الرئيس سعيد في موكب تعيين الحشاني قبل عام. وبقطع النظر عن نفوذ هذه الكارتلات وتأثيرها السياسي، فإن الناس ما يزالون يشعرون بأن الإدارة لم تتغير بالمرة.
إلى حد الآن البيروقراطية هي من تحدد حركة الإدارة، ويعيش الناس باستمرار على قطع الماء والكهرباء وتستمر أزمة العلف، وتتحرك المشاريع الحكومية ببطء السلحفاة، خاصة الطرقات السيارة، وبين وقت وآخر تغيب مادة من المواد الأساسية حتى إذا كثر حولها الجدل تظهر وكأن شيئا لم يكن. يضاف إلى ذلك ضرب الخدمات الضرورية الموجهة للمواطنين، وهو ما بدا واضحا في أزمة الماء والانقطاع المربك الذي كان يتم اللجوء إليه بهدف إثارة غضب الناس وتأليبهم على الدولة.
لا يمكن القول إن الحشاني قد نجح في هذه المواجهة، أو الحد منها، فالناس يرون بأعينهم أن عقلية الإدارة تتضخم أكثر وتتسع، وأن تفكيكها لا يحتاج إلى ترديد خطاب الرئيس، وإنما لخطوات عملية بعيدا عن الأضواء لضرب منظومة الرشى والمحسوبية والاحتكار وتكييف عمل الدولة لصالح اللوبيات التي تخترق الإدارة وتعرف تفاصيلها.
وبالنتيجة، فإن الحشاني كلّف بمهمة ولم ينجح فيها، وما بقي ليس سوى تفاصيل مثل توقيت إقالته ولماذا قبل الانتخابات وليس بعدها، وهل الإقالة تتعلق بتغير مزاج الرئيس سعيد تجاهه خاصة بعد لقائهما في 30 يوليو الماضي حين حدثه باستفاضة عن “عرقلة الإدارة”، وعن “جيوب ردة”، والارتماء في أحضان اللوبيات، ما يظهر قلقا واضحا من سوء تعاطي الحكومة مع ملف الإدارة.