هل يتخلى أردوغان عن حصان طروادة الإسلامي
الحمد لله.. نحن دائما معك سيدي الرئيس. هذه ردة فعل مسعود أوزيل لاعب خط وسط منتخب ألمانيا السابق لكرة القدم إثر فوز رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية جديدة مدتها خمس سنوات. وهي ردة فعل أغلبية ساحقة من الأتراك المقيمين في ألمانيا منحوا 65.4 في المئة من أصواتهم لأردوغان في انتخابات الإعادة الرئاسية.
فوز أردوغان قد يكون صدمة للذين راهنوا على خسارته، خاصة بعد تراجع الإسلام السياسي الذي رعته تركيا، إن لم نقل هزيمته.
الذين توقعوا هزيمة رجب طيب أردوغان في الانتخابات بناء على تراجع الإسلام السياسي لا يعرفون أردوغان ولا يعرفون تركيا.
مشروع الإسلام السياسي الذي رعته تركيا لم يكن يوما مشروعا للداخل التركي، بل مشروعا للجوار والتحكم بدول المنطقة.
لم يخض أردوغان الانتخابات مدافعا عن الإسلام السياسي، وإنما خاضها عازفا على وتر القومية والسيادة والكرامة ومواجهة التحديات الأمنية والإقليمية والدولية التي “تهدد تركيا”.
نستطيع أن نعدد قائمة من الأسباب التي أدت إلى فوز أردوغان بولاية جديدة مدتها خمس سنوات، مشروع الإسلام السياسي الذي رعاه أردوغان ليس واحدا منها.
زيارتي الأولى إلى تركيا، كانت بعد عام أو عامين من الربيع العربي. وصادف أن كانت الزيارة، التي استمرت أسبوعا واحدا واقتصرت على مدينة إسطنبول، خلال شهر رمضان.
كانت إقامتي في نزل بمنطقة السلطان أحمد التاريخية على مقربة من “آيا صوفيا” الكنيسة التي تحولت إلى متحف، والمتحف الذي تحول إلى جامع، على الضفة الأوروبية من المدينة.
لم أجد حينها رجالا ملتحين، ولم أجد نساء مسربلين بالسواد. أو رجال أمن يطاردون المفطرين. ما وجدته كان عكس ذلك؛ مطاعم مفتوحة خلال النهار مليئة بالرواد لا تكتفي بتقديم الطعام لهم بل تقدم الكحول جهارا، يجلس فيها جنبا إلى جنب من يحتسي كأسا من الجعة أو النبيذ ومن ينتظر الإفطار وأمامه طبق حساء وكأس لبن وبضع ثمرات تمر.
حدث هذا وما زال يحدث في ظل حكم أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
أسبوع واحد كان يكفي لأدرك صواب ما اعتقدته دائما: الإسلام السياسي لم يكن يوما مشروعا للداخل التركي، بل هو حصان طروادة تسللت بواسطته تركيا إلى دول الجوار.
مشروع “السلطان أردوغان” الداخلي مشروع شعبوي، يلعب فيه على وتر القومية والسيادة والكرامة، ويهدف إلى إبراز دوره في مواجهة تحديات أمنية وإقليمية ودولية يحاول إقناع الأتراك أنها تستهدف تركيا.
أردوغان على عكس ألونسو كيخاتو، بطل رواية الكاتب الإسباني ميغيل دي سيرفانتس “دون كيشوت”، لا يتوهم وجود أعداء يحاربهم، بل يصنع الأعداء ويشعل الحرائق ليشارك بعد ذلك في إطفائها.
إذا نظرنا من حولنا في كل الاتجاهات، سنرى حرائق أشعلها السلطان التركي؛ في سوريا والعراق وليبيا.. وحاول أن يشعلها في مصر وفي تونس.
لماذا يتخلى أردوغان الآن عن حصان طروادة الإسلامي، وهل حقا يريد إطفاء الحرائق؟
يريد أردوغان اقتناص الفرصة السانحة لـ”تصفير المشاكل” ووقف خسائر تكبدها الاقتصاد التركي.
لم تكن السنوات العشر الأولى من حكم أردوغان فاشلة. على العكس تماما شهدت تركيا خلالها ازدهارا لا ينكره سوى الجاحدين. فماذا حدث بعد ذلك؟
القراءة المتسرعة للأحداث ستفضي إلى نتيجة مفادها أن خسائر الاقتصاد التركي سببها مغامرات “السلطان أردوغان” في المنطقة.
هذا جزء من الحقيقة، ولكن ليس الحقيقة كلها؛ على الأقل ليس بالنسبة إلى 52 في المئة من الناخبين الأتراك الذين منحوا أصواتهم لأردوغان.
في عام 2003 أصبح أردوغان رئيس وزراء لتركيا، وفي عام 2008 واجه العالم أزمة مالية عالمية أثرت بشدة على اقتصادات أوروبا، وكان طبيعي أن تواجه تركيا هي الأخرى آثار الأزمة التي تمثلت بانخفاض حجم تجارتها الخارجية، وانسحاب رؤوس الأموال الأجنبية، وانخفاض سعر صرف الليرة التركية، وهو ما نتج عنه ارتفاع في معدل التضخم وانخفاض في مستوى المعيشة.
رغم ذلك نجحت تركيا في احتواء آثار الأزمة المالية، وحققت نسب نمو اقتصادي مرتفعة بلغت 5.6 في المئة عام 2010، و8.8 في المئة عام 2011. هذه النسب لم تنجح في إخفاء المشكلات الهيكلية للاقتصاد التركي، خاصة انعدام التوازن بين الطلب المحلي والإنتاج.
القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد التركي كانت جائحة كورونا، التي بدأت عام 2020.
مع وصول الجائحة كان الاقتصاد التركي يعاني من التضخم وتراجع الاستثمارات وتراكم الديون التي تزيد على 400 مليار دولار.
كورونا عمق أزمة الاقتصاد، خاصة في قطاع السفر والسياحة. وهو ما واجهته تركيا بوضع ما يسمى “خطة الدرع الاقتصادي” التي تضمنت إجراءات لدعم قطاع الأعمال وذوي الدخل المحدود، مثل خفض أسعار الفائدة، وتأجيل دفع الضرائب، وزيادة الإنفاق الحكومي. إجراءات كانت نتيجتها أن أثقلت كاهل الاقتصاد.
وأخيرا، جاءت مغامرة قيصر روسيا فلاديمير بوتين في أوكرانيا لتكمل ما بدأته الأزمة المالية العالمية ومن بعدها كورونا. ولكنها قدمت أيضا فرصة للنجاة.
نعم، الحرب الأوكرانية حملت معها أخبارا سارة للسلطان الجديد. أعادت معها أجواء الحرب الباردة، وقسمت العالم إلى معسكرين. أجواء أثبت أردوغان أنه يتقن توظيفها، فهو يجيد اللعب على الحبلين. هل نسينا كيف لعب لسنوات طويلة على الحبل الإسرائيلي والحبل الفلسطيني، وكان بمعجزة صديقا للطرفين.
مع ظهور سياسة “تصفير المشاكل” اكتمل السيناريو. الفرصة سانحة الآن ليصبح صديقا للجميع.
لقد أثبت أردوغان أنه “زعيم نادر”، حافظ على علاقات جيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وانتزع إشادة من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حتى بعد غزو موسكو لأوكرانيا.
أول رسائل تهنئة بالفوز وصلت أردوغان كانت من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورسالة أخرى من الرئيس الأميركي جو بايدن، وثالثة من رئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك.
الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، هنأ أيضا “السلطان المنتخب” على الفوز، وأشاد بدوره في مواصلة اتفاقية مبادرة الحبوب. حقا إنه “زعيم نادر”.