هل يخطف اليسار ماكرون والماكرونية؟
محمد قواص
أمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحدي جديد يهدد بتقويض نفوذه في فرنسا بعد أسابيع على إعادة انتخابه رئيسا لولاية ثانية في 24 أبريل.
الدورة الثانية للانتخابات التشريعية التي تجري الأحد من شأنها حرمان “الماكرونية” من أغلبية داخل الجمعية الوطنية (البرلمان) تمكّن الرئيس من إدارة البلاد دون معوقات تشريعية.
صحيح أن استطلاعات الرأي تتوقع فوز الائتلاف المتحالف مع حزب الرئيس (الجمهورية إلى الأمام) بأغلبية المقاعد، لكن الاستطلاعات نفسها لا تحسم حصول الكتلة الماكرونية على الأغلبية المطلقة (289 مقعدا أي أكثر من نصف عدد مقاعد البرلمان البالغ 577 مقعدا)، بما يعني احتمال الحصول على الأغلبية النسبية فقط، ناهيك من أن صناديق الاقتراع قد تأتي بمفاجآت صاعقة لصالح التحالف المنافس.
يقود الزعيم اليساري جان لوك ميلونشان تحالفا يساريا يضم حزبه، “فرنسا الأبية” مع الاشتراكيين والشيوعيين وأنصار البيئة. حقق التحالف تقدما لافتا في الدورة الأولى للانتخابات، الأحد الماضي، بحصوله على نسبة أصوات (25.7%) تقارب مع حصل عليه التحالف الماكروني (25.8 بالمئة).
ويعوّل الرجل على نصر في هذه الانتخابات يجبر رئيس الجمهورية على تعيينه رئيسا للحكومة. وعلى هذا تعيش فرنسا ساعات حاسمة قد تغيّر شكل الحكم وإدارة البلاد خلال السنوات المقبلة.
وعادة ما تتكامل الانتخابات التشريعية مع الانتخابات الرئاسية من حيث منطق منح الرئيس المنتخب أغلبية برلمانية تمكّنه من حكم البلاد خلال ولايته (5 سنوات). غير أن الأمر ليس آليا، خصوصا أن طبيعة الاقتراع التشريعي المناطقي تختلف في قواعدها وشروطها وظروفها عن الاقتراع الرئاسي العام.
وسبق لفرنسا أن شهدت مفاجآت تشريعية لم تأت لصالح أهواء الرئيس في الاليزيه سواء من خلال حصول التحالف الرئاسي على أغلبية نسبية أي غير كافية لتمرير القوانين دون مساومات ومفاوضات مع كتل برلمانية أخرى، أو من خلال خسارة هذا التحالف الانتخابات أمام خصومه، بما يدخل البلاد بحالة ما يسمى “التعايش السياسي”.
خلال “الجمهورية الخامسة” عرفت فرنسا تجربه ذلك “التعايش”، بين رئيس يساري وحكومة يمينية أو العكس، ثلاث مرات.
ما بين 1986-1988 ترأس اليميني الديغولي جاك شيراك حكومة في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران إثر فوز اليمين في الانتخابات التشريعية.
وما بين 1993-1995 تعايشت حكومة يمينية برئاسة إدوار بالادور مع الرئيس ميتران بعد انقلاب البرلمان لصالح اليمين.
وما بين 1997-2002 ذاق الرئيس اليميني جاك شيراك مرارة “التعايش” مع حكومة يسارية برئاسة الاشتراكي ليونيل جوسبان إثر فوز اليسار في انتخابات مبكرة دعا إليها شيراك واعتبرت خطيئة سياسية كبرى لم يكن مضطرا إليها أتت لصالح خصومه.
يمنّ ميلونشان النفس بهذه التجربة ليقود حكومة يسارية تقارع الإليزيه. احتل الرجل الموقع الثالث (21.9 بالمئة) في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية التي جرت في 10 أبريل وراء مارين لوبان (23.1 بالمئة) وإيمانويل ماكرون (27.8 بالمئة).
ولئن لم يحالفه الحظ في الانتقال إلى الدورة الثانية، فاجأ ميلونشون الرأي العام بالدعوة إلى تعيينه رئيسا للحكومة في “الدورة الثالثة”، وفق وصفه للانتخابات التشريعية الحالية، داعيا إلى تحالف اليسار والمدافعين عن البيئة للفوز بها .
سبق لماكرون أن لمّح أن لا أحد يفرض عليه اسم رئيس الحكومة المقبل. غير أن ميلونشان يعرف أن الأعراف الديمقراطية تفرض على رئيس الجمهورية اختيار زعيم الأغلبية البرلمانية الفائز تماما كما سبق أن حصل مع الرئيسين ميتران وماكرون.
يحذّر مراقبون من صعوبة إدارة البلاد برأسين متناقضين وغياب الانسجام الايديولوجي والسياسي بين الرئاسة والحكومة. الأمر كان معقّداً ومربكاً في فترات “التعايش” السابقة واضطرت البلاد إلى انتظار استحقاقات انتخابية، تشريعية أو رئاسية، لـ “تصويب” هذا الاعوجاج. ومع ذلك فإن فرنسا بما تمتلكه من مؤسسات سياسية وتقاليد ديمقراطية تمكّنت من تجاوز هذا الاختبار بأقل الأضرار.
والحال أن “التشظي” الذي خرجت به صناديق الاقتراع في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية تتكامل ولا تتناقض مع أجواء الانتخابات الرئاسية وما شابها من مخاطر وانقسامات.
بقي احتمال خسارة ماكرون لتلك الانتخابات واردا ومحتملا على الرغم من أن استطلاعات الرأي كانت ترجّح فوزه. واضطر ماكرون في الفترة الفاصلة بين الدورتين إلى خوض حملة انتخابية مكثّفة في سعيّ لاستعادة زمام المبادرة أمام منافسته الصاعدة مارين لوبن.
ولئن جاء فوز الرئيس مريحاً (58.5 بالمئة مقابل (41.4 بالمئة لمنافسته)، لكن السبب الأساسي يعود، مرة أخرى وكما في انتخابات الولاية الأولى قبل 5 سنوات، إلى استفادته من ملايين الأصوات التي ما كان لها أن تقترع له إلا من أجل منع اليمن المتطرف من الوصول إلى الإليزيه.
قبل رحلته إلى رومانيا ومولدافيا وأوكرانيا قبل أيام، دعا ماكرون الفرنسيين إلى منحه أغلبية تشريعية مطلقة داعيا إياهم إلى تصويت “جمهوري”. اعتبر ماكرون في دعوته، بشكل غير مباشر ومعلن، أن التصويت لتحالفه هو “جمهوري” وأن خصومه ليسوا كذلك.
وفي ذلك نهج الرجل الذي لطالما اعتبر نفسه منذ ترشحه للمنصب للولاية الأولى منقذا وحيدا لفرنسا استطاع الإطاحة بمرشحي أحزاب تقليدية كبرى وازنة. والواضح أن نيل تحالفه الأغلبية النسبية سيضعف قبضة ماكرون الذي ستضطر حكومته أن تتوسّل تحالفات على القطعة مع كتل برلمانية أخرى لتمرير القوانين، تماما كما فعلت حكومة يسارية ترأسها ميشال روكار عام 1988 حين لم يحظ اليسار إلا بالأغلبية النسبية في انتخابات ذلك العام. لكن بالمقابل فإن الماكرونية نفسها قد تصبح في خطر إذا ما فاز تحالف اليسار الأحد بالأغلبية المطلقة وقاد ميلونشان الحكومة الجديدة.
وإذا ما كانت انتخابات الأحد شأنا داخليا فرنسيا، فإن العالم يراقب باهتمام نتائجها، ذلك أن فوز اليسار قد يغير سياسة فرنسا الخارجية في مسائل شديدة التعقيد في ظروف الحرب في أوكرانيا كما في وحدة حلف الأطلسي وتآلف دول الاتحاد الأوروبي. ماكرون ينظر إلى الصناديق، موسكو وبكين وواشنطن وبرلين وغيرها أيضاً.