ليبيا وتركيا وسياسة حافة الهاوية في المتوسط
طارق القيزاني
يمثل تدويل النزاع على الأرض في ليبيا الخطوة الأكثر خطورة في هذا البلد الممزق، وهي المرحلة التي قد تهدد بدق إسفين بين الفرقاء الليبيين والسير نحو الانهيار الكامل لما تبقى من مؤسسات وكيان الدولة.
لا يضع الاتفاق الأمني والبحري بين أنقرة وحكومة الوفاق في طرابلس، ليبيا على فوهة بركان فقط، فالحملة العسكرية لقائد الجيش شرق البلاد، المشير خليفة حفتر، لم تتأخّر كثيرا في الرد وبدء حملة جديدة على العاصمة طرابلس، وإنما هو يدفع أيضا بجميع أسباب التوتر إلى مياه حوض المتوسط الساخنة أصلا، ولاسيما مع العدوّين التاريخيين في المنطقة، قبرص واليونان، فضلا عن التبعات الأمنية المتوقعة على المستعمرات العثمانية القديمة في الجنوب.
والاتفاق بشكل عام يعد خطوة حيوية لطموحات أنقرة بعد عدة اتفاقات تجارية وعسكرية مماثلة في السودان وقطر، ليس أقلها أهمية تأمين موارد الطاقة وتعزيز الصناعة العسكرية وإحياء النفوذ التاريخي للأسطول العثماني في مياه المتوسط.
لكن الاتفاق الحالي لا يأخذ بعين الاعتبار الوضع السياسي المشتت في ليبيا والتحولات التي قد يعرفها البلد في حال تمت استعادة وحدته السيادية بالقوة لأحد طرفي النزاع. فمن سيلزم هذا الاتفاق مستقبلا؟ أم أنه اتفاق يراد من ورائه أصلا قطع الطريق عن أي حلول ليبية ليبية؟
ربما يتعين الآن انتظار الخطوة التالية بشأن ما سيصدر عن أنقرة في حال أمرت قواتها بالتحرك في ليبيا ونجدة حكومة الوفاق من أجل الحيلولة دون سقوط العاصمة بيد قوات حفتر وموقف الدول المغاربية التي اكتفت بالتفرج والصمت وسياسة الحياد السلبي إزاء النزاع حتى الآن.
والأكثر تعقيدا أن هذا الاتفاق الذي وقعته جهة محدودة السلطة والسيادة في ليبيا، يخترق من حيث المبدأ الأعراف الدولية في مراعاة مصالح دول الجوار وأمنها، بأن أسقط بشكل متعسف واقعا جديدا على المنطقة ليس أقلها خطورة على الدول الثلاث، مصر والجزائر وتونس التي ترتبط بحدود مشتركة مع ليبيا.
كما ينسف الاتفاق آليا الجهود التي تبذلها العواصم الثلاث منذ إطلاق مبادرة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي للتوصل إلى حل سياسي شامل في ليبيا على قاعدة اتفاق الصخيرات لعام 2015. فهل أصبح هذا الجهد في نظر حكومة الوفاق في طي الماضي؟
الوقائع على الأرض وسنوات التفاوض الضائعة ترسم حقيقة سياسية في ليبيا وهي أن الحكم مستقبلا قد لا يتسع لجميع الفرقاء رغم تنصيص اتفاق الصخيرات وجهود مبعوث الأمم المتحدة ودول الجوار في هذا الاتجاه، وأن الأزمة قد لا تقف عند مجرد إزاحة أحد الخصمين في ظل تضارب مصالح القوى الدولية في هذا البلد.
ويدرك الليبيون خاصة أن مثل هذا النوع من الاتفاقات الموقعة مع أنقرة لها رواسب قديمة وغير مطمئنة في علاقتها بدول الجوار. فالمخاوف الحالية تعود بالذاكرة إلى حادثة الجرف القاري المتنازع عليه بين ليبيا وتونس في ثمانينات القرن الماضي بسبب ثرواته الطاقية والتي جعلت العلاقات بين الجارين في قمة التوتر وكادت أن تتحول إلى حرب حقيقية، قبل أن تفصل هيئة التحكيم الدولية في النزاع وتصدر حكما يفرض سيادة ليبيا على الجرف في عام 1982.
واليوم، يشير دليل”سانريمو” بشأن القانون الدولي المطبق في النزاعات المسلحة في البحار، في فقرته الرابعة والثلاثين، أنه إذا شنت أعمال عدائية في المنطقة الاقتصادية الخالصة أو في الرصيف القاري لدولة محايدة، فإنه يجب على الدول المتحاربة ألا تتقيد بالقواعد النافذة الأخرى لقانون النزاعات المسلحة في البحار فحسب، بل أن تراعي أيضا حسب الأصول حقوق وواجبات الدولة الساحلية من بين جملة أمور أخرى، لاستكشاف واستغلال الموارد الاقتصادية للمنطقة الاقتصادية الخالصة والرصيف القاري، ولحماية ووقاية البيئة البحرية.
ويجب على الدول المتحاربة بحسب الدليل كذلك، أن تراعي خاصة وحسب الأصول الجزر الاصطناعية والمنشآت والتحصينات ومناطق الأمن التي أعدتها الدول المحايدة في المنطقة الاقتصادية الخالصة والرصيف القاري.
ومن بين الالتزامات الأخرى التي يتوجب اتباعها أن تتجنب الدول المتحاربة قدر الإمكان التدخل في استكشاف أو استغلال الدولة المحايدة للمنطقة. والامتثال لمبادئ الحماية والوقاية للبيئة البحرية حسب الأصول.
ليس واضحا ما إذا كانت القيادة التركية تضع هذه الاعتبارات والمحاذير نصب عينيها على الأمد البعيد في مضمون اتفاقها الذي لم تكشف عنه بالكامل، رغم استبعاد كل احتمالات الاشتباك البحري. ولكن الاتحاد الأوروبي يرى في موقفه المبدئي أن الاتفاق يتضارب مع قانون البحار للأمم المتحدة وينتهك بشكل واضح سيادة دولتي قبرص واليونان انطلاقا من جزيرة كريت التي تتبعها وتفصل بين المياه البحرية التركية والليبية.
وفي كل الأحوال فإنه من المتوقع أن يتحول هذا الملف إلى ورقة ضغط جديدة في علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي كما كان الحال دائما، ينضاف إلى ورقة ملايين من اللاجئين والمهاجرين على أبواب أوروبا والنزاع السوري وترحيل الدواعش الأوروبيين إلى دولهم.
ولا يعد أمرا جديدا مثل هذا التلازم المصلحي في تحريك الدبلوماسية التركية تجاه أصدقائها وأعدائها على السواء، لكن الخطورة في أن تؤخذ الدول المحايدة بجريرة الدول المنتهكة للسيادة بما يدفع الجميع إلى الحافة.