في معضلة تأريخ تاريخ الجائحة
د. عبد المنعم سعيد
ربما يكون مبكرا أن يكتب تاريخ أزمة “كوفيد-19″، فالعادة أن يبدأ المؤرخون في النظر إلى حدث كبير ما بعد نصف قرن على الأقل من حدوثه. والقصد من ذلك أن تكون العواطف أمام ما جرى قد هدأت، وأن تكون الوثائق والمعلومات كثيرة عما حدث، ولكن الأمر لا يخل عادة أن يكون هناك من يوثقون الموضوع، ويكتبون يومياته، أو حتى ما كان فيه بين ساعة وأخرى.
وأذكر أثناء حرب أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣ أنني كنت مكلفا في الكتيبة ٦٥٤ مقذوفات مضادة للدبابات التي كنت رقيبا فيها مكلفا بأن أسجل يوميات المعركة، وفي الحقيقة أنها لم تكن يوما بعد يوم، وإنما في حقيقتها ساعة بعد ساعة، وأحيانا لحظة بعد لحظة، تسجل متى تحركنا ومتى وصلنا ولحظة إطلاق الصواريخ وإحداثيات حدوثها، وهكذا أمور، ومتى أصيب هذا، ومن كان شهيدا، ومتى جاء وقت الإمداد والتموين.
المؤرخون يهتمون بالأزمة فعلا، وقت البداية، وفيما نأمل وقت النهاية، وانقشاع المرض وضمه إلى السجلات التاريخية. ولكن العلماء لا تبدو معهم هذه النقطة مهمة إلى ذلك الحد، فما يهمهم حقا هو كيف تكون هذا الفيروس.
جرى ذلك فيما أعرف في جميع الوحدات المصرية، ولا أدري ما الذي جرى بعد ذلك لهذا الكم الهائل من تسجيل وقائع القتال. مثل هذا التسجيل ربما لن يكون حادثا الآن بالطريقة التي ذكرتها نظرا لأن عمليات تسجيل كبرى تجرى بالفعل من خلال أجهزة إعلام جبارة، ومراكز بحوث عظمى، وخطب قادة، وتعليقات زعماء. هناك بالفعل عمليات رصد يومي لكافة وقائع جائحة الكورونا أو “كوفيد ١٩”، ورغم هذا الرصد الكبير فإنه من الصعب أن نعرف متى بدأ المرض فعليا، ومن هو “المريض صفر أو زيرو” والذي منه بدأت عملية انتشار المرض.
الشائع أن هذه الشخصية المحورية التاريخية جاءت إلى التسجيل يوم ١٢ يناير/كانون الثاني ٢٠٢٠ مع الإعلان الصيني بإصابة أول المرضى، ولكن هذا التاريخ لا يقول لنا الكثير إذا علمنا أيضا من مصادر صينية أن نقطة البداية ربما حدثت قبل ذلك بشهر أي في يوم ما، وساعة ما، من شهر ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٩، ولذلك كان الاسم الرسمي “كوفيد-19” وليس “كوفيد ٢٠”.
أي أن عملية التأريخ التاريخية قد بدأت بالفعل كما هو الحال في كل الوقائع التاريخية بالاختلاف على زمن البداية، وغموض لحظة انطلاق أزمة أصيب بها أكثر من المليون من البشر، وتوفي فيها ما تعدى ١٠٠ ألف نسمة، وذلك في وقت كتابة المقال.
المؤرخون يهتمون بالأزمة فعلا، وقت البداية، وفيما نأمل وقت النهاية، وانقشاع المرض وضمه إلى السجلات التاريخية. ولكن العلماء لا تبدو معهم هذه النقطة مهمة إلى ذلك الحد، فما يهمهم حقا هو كيف تكون هذا الفيروس، فمعضلة المعرفة هنا أنه “مُكَوِّنْ حمضي مضافا له بعض من الدهون، وهذا في حد ذاته لا يجعله فيروسا كما هو حال بقية الفيروسات.
“كوفيد-19” لا يبدأ حاله هكذا إلا بعد أن يدخل إلى جسم المريض الذي لم يكن مريضا حتى ساعة الدخول والاستقرار داخل الرئة البشرية. المدهش أن هذا الغموض في تكوين الفيروس ومعرفته لم تتم من داخله، وإنما من حالة الأجسام المضادة التي أفرزها الجسم البشري للتعامل معه. الأمر حتى لحظة كتابة المقال لم يكن معروفا بصورة دقيقة وإلا كان ممكنا في هذه المرحلة من العلم البشري أن يتم توليد اللقاح الذي يقي منه، والدواء الذي يعالجه.
ما هو مسجل في هذه اللحظة التاريخية هو أن “جينوم” الفيروس قادر على القتل، وقد فعل ذلك بشراسة عجيبة، وأنه لأسباب غير معروفة اهتم كثيرا بالدول الكبرى والمتقدمة من الصين إلى الولايات المتحدة إلى دول الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية واليابان وبقية دول “النمور الآسيوية”.
صحيح أن ما يقرب من ٢٠٥ كيانات سياسية في العالم من دول وغير دول جاءها المرض بشكل أو آخر، زاد أو قل، ولكنه داخل الكيان الواحد كان مهتما بمن كانوا كبارا في السن فوق السبعين، والمصابين بداء نقص المناعة، ومتاعب في الصدر قلبا أو رئة. اللافت للنظر، وما تقوله الأرقام أنه كان أكثر ميلا للملونين في البلدان التي اختلطت فيها الأجناس والألوان.
“كوفيد-19” لم يكن استثناء من الأحداث “التاريخية” الكبرى وهو أن الدول الكبرى لا بد لها من تبادل الاتهامات حول مسؤولية الكارثة الجائحة التي وقعت وألمت بالبشرية جمعاء. وليس معروفا من الذي بدأ بتبادل الاتهامات، ولكن المسجل أن الرئيس الأمريكي لم يتردد في وصف الفيروس بأنه “صيني” بحكم ما جرى من إعلان في جمهورية الصين الشعبية. كان الاتهام متوائما مع حرب باردة تجارية كانت واقعة في العالم في السنوات الأخيرة من العقد الثاني في القرن الحادي والعشرين.
ولكن الصين لم تكن لتجعل الموضوع يمر دون رد خاصة وأنها، وهي “مركز” الانتشار في العالم، كانت هي التي وصلت إلى نقطة الذروة أولا ومن بعدها بدأت في التعافي حتى وصلت إلى نقطة الصفر من الوفيات. القصة الصينية بدأت من منتصف مارس/آذار وقامت على أن الجيش الأمريكي كان المسؤول عن تفشي الفيروس الذي تم تطويره كقنبلة بيولوجية هندسية، إما عن قصد أو عن طريق الخطأ، وزرعها أفراد عسكريون أمريكيون في مدينة ووهان. القصة تم نشرها في مطبوعة تغذي نظريات المؤامرة بواسطة Global Research، وهو موقع لنشر مجموعة متنوعة من المؤامرات من المناهضين للولايات المتحدة.
وجرت على الوجه التالي: أنه في أغسطس/آب 2019، تم إغلاق معهد البحوث الطبية للأمراض المعدية التابع للجيش الأمريكي في “فورت ديتريك”، وهو مختبر للسلامة البيولوجية وقادر على التعامل مع الأمراض المعدية الخطيرة مثل “الإيبولا”، وفشل في اجتياز فحص السلامة من قبل المراكز الأمريكية للسيطرة على الأمراض والوقاية من عدواها. وبعد عدة أشهر، أصدر مركز السيطرة على الأمراض تقريرا أشار إلى 805 حالات دخول إلى المستشفى بسبب إصابات في الرئة و12 حالة وفاة مع متوسط عمر 23 عاما. خلال نفس الفترة، أرسلت وزارة الدفاع الأمريكية 280 من أفضل الرياضيين في القوات المسلحة الأمريكية إلى الصين للمشاركة في الألعاب العسكرية العالمية.
وعانى خمسة رياضيين من نفس المرض وتم نقلهم إلى مستشفى ووهان، ومن هؤلاء كان “المريض صفر” الذي تفشي منه “كوفيد ١٩” والذي يبدو في القصة أن مركزه ينبع من سوق “ووهان” للمأكولات البحرية!
تأريخ التاريخ هكذا أصبح مستحيلا خاصة أن نظرية المؤامرة لم يحتكرها الأمريكيون ولا الصينيون وإنما أصبحت رائجة ما بين تدمير الولايات المتحدة إلى منع الصين من الوصول إلى مقدمة النظام العالمي إلى جماعة من البنوك المسيطرة على العالم والتي أرادت تحقيق انهيار في البورصات العالمية ثم شراء الأسهم الرخيصة ومنها تتم سيطرة أخرى على العالم. وفي كل الأحوال كان الخيال حريفا، بينما الواقع نفسه يسير في اتجاه آخر وهو حالة من المواجهة بين مملكة الإنسان، ومملكة أخرى تقع خارج الدول والجماعات السياسية والاقتصادية.
هي حالة من العدوان لا يرد فيها اتفاقيات للسلام، ولا توجد فيها هدنة، ولا مناطق منزوعة السلاح، ولا إجراءات لبناء الثقة، ولا تدخل مراقبين دوليين، وإنما هي حالة متبادلة وجودية من الإبادة الجماعية إما للفيروس أو للإنسان. الإنسان المعاصر عرف هذه الحالات من قبل وتمكن من القضاء عليها عندما كانت في أشكال فيروسات وميكروبات وبكتيريا؛ والآن عليه أن يضم تجربة جديدة لتاريخه ربما تكون أول دروسها أن تهديد الأمراض المعدية لا يزال قائما.
الأوبزرفر العربي