كيف نواجه النزوع الإمبراطوري لدول الجوار؟
د. نصر محمد عارف
الفكرة الإمبراطورية بعيدة عن العقل العربي؛ لأنها لم تكن يوما جزءاً من تراثه، ولا مرحلة من مراحل تاريخيه، حتى الدولتان الأموية والعباسية لم تكونا يوما إمبراطورية، بل دولة أقرب للفيدرالية أو الكونفدرالية. أما الإمبراطوريات فشأن آخر عرفته دولة الفرس ودولة بني عثمان، وحلمت به بعض الدول الأخرى مثل الحبشة ولم تحققه.
قدم المؤرخ العراقي الراحل “الدكتور عبد العزيز الدوري”؛ معياراً جوهرياً للتفرقة بين الدولة الامبراطورية، وغيرها من الدول التي توسعت جغرافيا بصورة هائلة، ولا يمكن وصفها بالامبراطورية مثل الدولتان الأموية والعباسية؛ يقوم هذا المعيار على طبيعة النظام المالي للدولة؛ خصوصاً نظام الضرائب.
في النظام الإمبراطوري يتم جمع الأموال، والضرائب، وكل العوائد من الولايات والأمصار والأقاليم التابعة للإمبراطورية، ويتم نقلها جميعا للعاصمة، ولا تستفيد تلك الولايات والأقاليم منها شيئاً، بحيث تكون الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية في المركز أو في العاصمة مختلفة بصورة كاملة عن الأقاليم التابعة لها. فتكون روما، والقسطنطينية مركزا حضاريا مزدهراً، فيه من العمارة والفنون ورغد العيش والترف القدر العظيم، وتكون الأقاليم والمناطق التابعة لها فقيرة مدقعة، مفلسة، لا يوجد فيها عشر معشار ما في المركز أو العاصمة.
لذلك تكون النظم الإمبراطورية ذات طبيعة استعمارية فجة، تعمل على استنزاف موارد الأقاليم التابعة لها، وتفليسها لصالح المركز الذي يوجد فيه العرق أو الجنس الحاكم، وتكون الفوائد كلها عائدة للجنس الحاكم، وتكون الأجناس التابعة في صورة أقرب للعبيد، لا يستفيدون من خيراتهم شيئا إلا بعد أن يأخذ السيد الحاكم ما يريد.
يخلق النظام الإمبراطوري ثقافة قومية خاصة؛ تصبح جزءاً من الهوية، والذات القومية لذلك الشعب الذي عاش مرحلة إمبراطورية في تاريخه، هذه الثقافة يتشارك فيها جميع الشعب لأنها تصير جزءا من الرمز الوراثي له، وتصبح من مكونات جيناته، وحمضه النووي، لذلك يكون الحلم الإمبراطوري جزءاً لا يتجزأ من الهوية القومية، والذات الحضارية، ويختلف الأشخاص حول كيف؟ ومتى؟ يتحقق ذلك الحلم وتعود الحالة الإمبراطورية مرة أخرى.
من أهم خصائص الحالة الإمبراطورية لأي شعب من الشعوب أنها تجعله معتمداً في رفاهيته الاقتصادية على استغلال الآخرين، خصوصا دول الجوار، وأن يكون الحلم الدائم قائما على التوسع، والتمدد الجغرافي؛ سواء بضم الأراضي، أو بالاستحواذ على الموارد الطبيعية، أو باستنزاف القدرات، واستقطاب الطاقات.
تعتمد الحالة الإمبراطورية على قوة الذات وضعف الآخر، لأن تحقيق النزوع الإمبراطوري يتم عادة بالقوة العسكرية؛ التي توظف التفوق الذاتي، وحالة الضعف عند الآخرين، لذلك لا يمكن أن تتحقق الأحلام الامبراطورية الا بالجيوش القوية، والأساطيل الكبيرة، والجبروت المادي الذي يتفوق بصورة كبيرة على الشعوب المراد إخضاعها واستغلالها.
هذا النزوع الإمبراطوري قد يختفي لقرون، ولكنه في لحظة معينة يعود، وقد يعود بقوة وشراسة غير مسبوقة، لأن عودته قد تأتي بعد حالة ضعف، أو استذلال من قبل قوى أكثر قوة ورهبة، وقد تأتي عودة النزوع الامبراطوري بعد مرحلة ضعف وتخلف وانهيار، وفي هذه الحالة يكون أشد شراسة وأكثر عنفا؛ يكون منزوع القيم، وخاليا من الأخلاق، لأنه يعكس مركب النقص الذي عانى منه ذلك الشعب لعقود أو لقرون قبل ذلك، ويعبر عن حالة من الشوق واللهفة للعزة القومية، والمجد العنصري، والمصالح الشخصية، والأحلام المادية في الرخاء والازدهار والترف الذي كان الشعب يسمع عنه في القصص وحكايات القصاصين والجدات.
ولأن حالة النزوع الإمبراطوري حالة مستمرة، قد تخبو زمناً، ولكنها ستعود، لذلك فإن الصراع مع دول الجوار التي يوجد لديها هذا النزوع؛ ممثلة في إيران وتركيا هو صراع اجتماعي ممتد، لن يزول إلا بزوال هذا النزوع الامبراطوري من الثقافة، وهذا أمر مستحيل، ولم يفلح مع النازية في ألمانيا، لأنه سيظهر جيل في يوم من الأيام؛ مثل النازيين الجدد، يحلم بعودة ذلك الحلم الامبراطوري.
لذلك لا أمان مع دول الجوار التي لديها هذا النزوع للتمدد، والتوحش لاستعادة الأحلام الإمبراطورية إلا بوسيلتين أولهما: أن نحافظ على القدرة والقوة التي ترهب هذه الدول وتردعها، وتمنعها من مجرد التفكير في ذلك الحلم، لأن التفكير فيه سوف يستدعي كابوساً مرعباً يمنع من الأحلام. وهنا تكون قوة الردع ضرورية لكي يظل ذلك الشعب الذي توجد لديه هذه النوازع الامبراطورية متعقلا وحكيما، لأن التفكير في تحقيق الحلم الامبراطوري سيعني زوال الوجود ذاته.
وثانيهما: العمل على إضعاف وتفكيك هذه الدول التي يسيطر عليها النزوع الإمبراطوري، والتأكد من تفكيكها بصورة كاملة، والقضاء على بذور الحلم وجذوره، أو التأكد من أنها ضعيفة بصورة دائمة، والضعف هنا من الناحية العسكرية، وليس الضعف الاقتصادي، وإن كان من الضروري التأكد من أن القوة الاقتصادية إن وجدت لن تتحول إلى قوة عسكرية، وهذا ما فعله الغرب المنتصر في الحرب العالمية الثانية مع ألمانيا واليابان، وهو نفس الأمر الذي حدث مع الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية النمساوية- المجرية في الحرب العالمية الأولى.
إن دول الجوار العربي بات يهيمن عيلها نزوع إمبراطوري خطير؛ يهدد بزوال دول عربية كاملة من الوجود، ويدفع نحو صراعات تعيق الشعوب العربية من العبور نحو المستقبل، ولن يصلح مع دول الجوار التي تهيمن عليها أحلام إمبراطورية الحوار أو التفاهم أو الدبلوماسية الناعمة، لابد من الردع، أو أن ينقلب السحر على الساحر، وعلى نفسها جنت براقش.
الأوبزفر العربي