الإرهاب يعصف بأوروبا.. الضحك في مأتم
فاروق يوسف
ليس سرا أن للسياسة وجها خفيا يكون أحيانا نقيضا لوجهها المعلن. فما يقوله السياسيون ليس حتما هو ما يفكرون فيه. وستبدو الشبهات أشد تعقيدا إذا ما تعلق الأمر بما تفكر فيه الحكومة علنا وما تفعله أجهزة الدولة الأمنية والمخابراتية سرا.
مناسبة ذلك القول هي هذه الموجة من الهجمات الإرهابية التي يتعرض لها مواطنون أبرياء أوروبيون تحت غطاء الرد على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إثر مقتل المدرس الذي عرض الصور المسيئة للنبي على طلابه.
تبدو الساحة مفتوحة على عنف وعنف مقابل ليس جديدا. هي جولة أخرى من صراع لا يمكن التحقق من مصداقية الحقائق التي يستند عليها. فلا يعني في شيء أن الذئاب إذا كانت منفردة كما يُقال عدم ارتباطها بتنظيمات عقائدية وتجمعات عنصرية تحرض على العنف، باعتباره حلا في مواجهة عنف سيكون من الصعب تلخيص أسبابه بالرجوع إلى حادث عابر مثل ما حدث حين قام ذلك المدرس عاثر الحظ بغباء بعرض تلك الصور القديمة التي لم يعد النقاش حولها ذا معنى أو فائدة.
فـ”حرية التعبير” التي تورط ماكرون في أن يرفعها شعارا ضد التشدد والتعصب لا تسمح بالتأكيد باستفزاز مشاعر الآخرين الدينية والتقليل من شأن رموزهم وإلا اعتبرت دعوة للقتال. هل أساء الرئيس الفرنسي التعبير أم أنه لم يجد ما يلهي به الشعب الغاضب إلا العودة إلى مبادئ الجمهورية؟ لقد وسع الخلاف بدلا من أن يردم هوته، ويعتبره واقعة قائمة على سوء فهم متطرف. ولكن تبقى المسألة أكثر سعة من قتل مدرس وتصريحات رئيس.
ما جرى في فيينا يؤكد أن الدورة تتسع ولا أحد يبحث عن اعتذار. ستكون الذئاب المنفردة جاهزة غير أن الرد عليها هو الآخر سيكون جاهزا وهو لا يتعلق بالمجموعات الإرهابية التي تعمل تحت نظر الشرطة بل بكامل الوجود المسلم على الأراضي الأوروبية. في لحظة ما سيكون المواطنون الأوروبيون المسلمون في خطر. حينها لن تنفع التصريحات فالمواطنة لا تكفي.
يقتل المجرمون ضحاياهم الأبرياء في الأماكن العامة ويُقتلون. كما لو أنه مشهد مقتطع من أحد أفلام الغرب الأميركي.
خلال عقود كان الإسلاميون يحظون برعاية أجهزة المخابرات الغربية في البلد الذي تستقبلهم فيه دوائر الهجرة وتعاملهم بطريقة استثنائية كما لو أنهم مبعوثون سياسيون من طراز خاص. تُلبى كل طلباتهم ويتم تيسير عملية ضم البعض منهم إلى البعض الآخر، فيسكنون أينما يحبون وليس من الضروري أن يُطالبوا بالعمل. كانت لديهم خصوصيتهم التي لا تُمس. كل ذلك كان عنوانه “حرية المعتقد”.
كان واضحا أن الأجهزة الأمنية تملك عيونا وآذانا داخل ذلك الجسد المراوغ والماكر والمداهن. كانت تلك العيون والآذان حريصة على نقل أخبار عن حركة النملة حين تدب. لذلك فإن الحديث عن ذئاب منفردة هو مجرد فرية، يُراد من خلالها إعفاء تلك الأجهزة من مسؤوليتها إزاء ما يحدث.
كأنما يُراد لهذه الحرب أن لا تنتهي.
فجماعات الإسلام السياسي التي تم تبنيها مخابراتيا منذ عقود وكانت مهيأة لاستلام الحكم في العالم العربي بعد ما سُمي بالربيع العربي فشلت في القيام بذلك ولا تزال حركة النهضة في تونس وحدها تقاوم الفشل.
تلك الجماعات لا يزال الجزء الأكبر منها مقيما في أوروبا. وهي جماعات معزولة ولم يكن مطلوبا رسميا من أفرادها الاندماج في المجتمع الذي يعيشون وسطه. لقد كانت النظرة إليهم مختلفة. كانوا مجرد ضيوف طارئين وفرت لهم المواطنة حق الحماية. غير أنهم في حقيقة أمرهم مغادرون لكي يحكموا دولا ستقع بين أيديهم.
ذلك الحلم انقضى وبات جزءا من الماضي.
تيارات الإسلام السياسي بأفرادها هي اليوم جسد ثقيل على أوروبا. لقد انتهت الحكاية التي تتعلق بدولهم الأصلية من غير أن يكون ممكنا أن تبدأ حكاية تتعلق بأوطانهم البديلة. كل هذه التجمعات البشرية التي تعيش منعزلة ولا تعبأ بما يُسمى سبل العيش صار التخلص منها أمرا غير ممكن.
ذلك شعور لا يمكن إخفاؤه. وهو ما ينعكس على سلوك أولئك المحميين بفكرة الجهاد المقدس. لذلك كان الانفعال بفكرة العدو الذي يجب القضاء عليه سريعا. ليس مهمّا مَن نفذ العمل الإرهابي. حتى الجهة التي حرضت عليه لم تعد مهمة إذا كان هناك مَن يحميها ويسدد ثمن أتعابها ويخدمها في عزلتها. هناك قاتل خفي، سيكون علينا أن نتأمل إنسانيتنا بحذر حين نكتشفه.
كان ماكرون عبارة عن سهو في السياسة حين تحدث عن حرية التعبير فيما كان اللاعبون يضحكون في مأتم.
الأوبزرفر العربي