البحث عن مبادرة عربية لحل الأزمة السورية
بهاء العوام
الإدارة الأميركية الجديدة لا تريد استخدام القوة العسكرية لإسقاط الأنظمة الاستبدادية ونشر الديمقراطيات حول العالم، هذا ما أكده وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن. ولكن ماذا عن استخدام القوة الاقتصادية؟ ألا تستحق هذه السياسة المراجعة وقد أثبتت فشلها في تغيير المستبدّين أو حتى تقويم سلوكياتهم ولو امتدت لعقود؟ هي فقط تزيد من معاناة الشعوب التي تخضع لسلطة الاستبداد.
عقوبات قيصر على سوريا بدأ تنفيذها منذ نحو تسعة أشهر، فوصل الدولار الأميركي إلى ما يقارب أربعة آلاف ليرة سورية، وأصبح أكثر من تسعين في المئة من السوريين يجدون صعوبة في تأمين طعامهم وحاجاتهم الأساسية. أما العملية السياسية المتمثلة بمفاوضات اللجنة الدستورية في جنيف، فلم تتقدم قيد أنملة طوال هذه الشهور، وبعد بضعة أشهر سيترشح “الرئيس” للانتخابات.
الولايات المتحدة لا تريد من العقوبات أن تشعل ثورة جياع تنتزع بشار الأسد من السلطة. لو كان الأمر كذلك لما تخلّت عن الثورة السورية التي اشتعلت في 2011، بل تبنتها ليرحل الأسد كما رحل غيره خلال أيام. لا يوجد فرق بين ثورة الجياع وثورة الحالمين بوطن أفضل، لذلك فإن قانون “قيصر” جاء فقط ليزيد تعقيد الأزمة ويدفع بها نحو عشرية سوداء ثانية تنتهي بتقسيم دولة سوريا.
الاستعصاء في حلحلة الأزمة سياسيا، وما يواكبه من تدهور في الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بسبب عقوبات قيصر، أثاره وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد بعد لقاء نظيره الروسي خلال زيارته إلى أبوظبي ضمن جولة خليجية شملت الرياض والدوحة أيضا. ومن ضمن الخطوات الضرورية لاحتواء الأمر برأي الإمارات، يأتي توفير الأجواء لعودة سوريا إلى الجامعة العربية.
الوزير الإماراتي ينظر إلى الأزمة ضمن مقاربة واقعية لمعالجتها في سياق عربي دولي يحرّرها من التجاذبات الإقليمية والدولية التي تقسّمها حاليا إلى كيانات ودويلات. طبعا تمثل تركيا وإيران الطرفين الرئيسيين في التجاذبات الإقليمية، وكلا الدولتين تحاولان فرض حضورهما على الديموغرافية والجغرافية السورية لتحيلا مناطق بأكملها إلى محافظات أو ولايات تتبع لأنقرة أو طهران.
حجّة الطرفين هي “حماية” الأمن القومي من الخطر القادم عبر الحدود، وكل منهما يزعم مساعدة الشعب السوري في استعادة بلاده المدمّرة بفعل عقد من الحرب متعددة الأوجه والأقطاب. أما الحقيقة فإنهما يساعدان النظام على البقاء عبر الدعم العسكري كما تفعل إيران، أو تعطيل حل الأزمة كما تفعل تركيا.
هل تحتاج الأزمة السورية إلى مقاربة جديدة عربيا ودوليا. نعم، ومن أدرك ذلك ليس فقط الإمارات بل عدة دول عربية تعتبر أن استرداد المبادرة في حل هذه الأزمة، يأتي في سياق حماية المنطقة من التدخلات التركية والإيرانية في شؤون دولها. ولهذا سارع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى قطر ليعطّل المساعي الروسية في الحشد باتجاه مثل هذه المقاربة العربية للأزمة.
جاء الوزير التركي ليقول إن قرار الدوحة يتبع لأنقرة في الأزمة السورية، ولن يسمح للقطريين بالخروج عن المسار الذي صاغه “السلطان” رجب طيب أردوغان في هذه الأزمة. عليهم أن يؤيدوا السياسة التركية في هذا الملف، ويدفعوا الأموال للشخصيات والكتل والميليشيات السورية التي تعمل في المناطق التي يحتلها الجيش التركي شمالا، بالإضافة إلى تعطيل أي قرار عربي تجاه دمشق.
يبدو هذا الدور مناسبا جدا لقطر، لأنه يجنّبها الحرج مع إيران التي يتوجّب أيضا على الدوحة مراعاة مصالحها في المنطقة، إما من خلال الإنفاق على ضمان استمرار الأزمة السورية، أو من خلال الاعتراض على أي محاولة عربية لمحاصرة نفوذ طهران فوق الأراضي السورية.
تجاهل حقيقة أن الأزمة معقدة لارتباطها بتجاذبات كثيرة بين عدة قوى متناحرة، لن يفيد السوريين. كذلك لن يفيد عدم اعترافهم بأن الثورة لم تعد ثورة، والصراع على السلطة إضافة إلى تردي الأوضاع الأمنية والإنسانية والاقتصادية، باتت سمات عامة في كل المناطق، سواء تلك الخاضعة لسيطرة النظام وحلفائه أو التي تدعي “الاستقلال” وهي مكبّلة باحتلال تركي أو بوصاية أميركية.
على ضوء هذه المعطيات يجب أن تولد المبادرات العربية لحل أزمة سوريا. لا يتعلق الأمر بمن يجلس على الكرسي المخصص لها (سوريا) في مقر الجامعة العربية، وإنما بطرح رؤية عادلة من الأشقاء الذين لا يحلمون باقتطاع مساحات من أراضيها، ولا يريدون هيمنة لتركيا أو إيران على أجزاء منها، ولا يدعمون نجاح مشاريع انفصالية لطائفة أو قومية هناك، كما لا يقبلون باستمرار مأساة النازحين واللاجئين إلى الأبد، ولا ينكرون حاجة السوريين إلى المصالحة الوطنية.
عندما تتوافر مثل هذه الرؤية، ويحصل التوافق حولها مع الروس والأميركيين، تتكفل الجامعة العربية بترجمتها واقعيا عبر تشكيل مجلس انتقالي يخرج عن حوار سوري – سوري تحتضنه دولة شقيقة. لن تستطيع إيران وتركيا عرقلة مثل هذه المساعي أبدا، وخاصة إن حصلتا على تأييد من مجلس الأمن، وأبدت الجامعة استعدادها لدعم المجلس السوري بالمال أو حتى القوات إن احتاج الأمر.
بعد عشر سنوات من الموت والدمار ثمة محاولة روسية لخلق مقاربة جديدة للأزمة السورية عربيا، وهي تلتقي مع حاجة المنطقة إلى مواجهة مشروعين توسّعيين واضحين يهددانها، هما الإيراني والتركي. صحيح أن موسكو تبحث عن مصالحها الخاصة في هذه المقاربة، ولكنها تعيش مأزقا في سوريا يضطرها إلى صياغة تلك المقاربة بما يلبّي التطلعات العربية، ويفرض نفسه بديلا عن أستانة وسوتشي وأي مسار يتجاهل العمق العربي للدولة المتوسطية، وينكر على السوريين بمختلف قومياتهم وطوائفهم ودياناتهم، حقهم في بناء دولة مواطنة مدنية وديمقراطية.