بيان القطيعة بين النهضة وقيس سعيد
مختار الدبابي
بعد أكثر من سنة ونصف السنة ظلت حركة النهضة تناور في معركتها مع الرئيس التونسي بالحد الأدنى وتسعى لأن تبدو في موقف من يريد التهدئة والحوار لحل الخلاف، لكنها خرجت يوم الثلاثاء ببيان يظهر وبكل وضوح أنها تتخلى عن الحذر والمداراة وتختار القطيعة مع قيس سعيد، وربما وضعت أولى الخطوات على عتبة التصعيد.
وجاء هذا البيان مشحونا ضد قيس سعيد بشكل لا يقبل الالتفاف عليه لاحقا، أو اللعب على غموض الكلمات والإشارات.
وقال البيان إن الحركة “تستغرب عودة رئيس الدولة إلى خرق الدستور واعتبار وثيقة ملغاة مصدرا لتبرير نزوعه نحو الحكم الفردي”. كما حمل اتهامات من نوع “دوساً على الدستور”، و”تهديدا للديمقراطية والسلم الأهلي”، و”المنزع التسلطي لرئيس الدولة”، و” الالتزام الجادّ بالدستور(…) وأن يتوقّف عن كل مسعى لتعطيل دواليب الدولة وتفكيكها”.
وتظهر الصيغ القوية التي تضمنها البيان أن النهضة تخلت عن المحاذير في علاقتها بقيس سعيد، وخاصة عن لعب “دور الحكيم” الذي يبحث عن كسب إعجاب الخارج ويسوّق لنفسه كتلميذ يمكن الرهان عليه في لعبة ترويض “الربيع العربي”.
لكن ما الذي حدث، وما الذي أخرج راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، عن طوره؟
كل الدلائل تقول إن تغيير حركة النهضة لموقفها وأسلوبها وسقف إدارة المعركة يعود إلى زيارة قيس سعيد إلى مصر، وما حف بها من تأويلات بشأن انضمامه إلى حلف إقليمي معاد للإسلام السياسي، وأنه سيعمل على مواجهة التطرف بكل راديكالية وشموله “كل أشكال الإرهاب” كما جاء في كلمة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره التونسي.
والنتيجة أن “السيناريو المصري” الذي هربت منه النهضة وقدمت لأجله كل التنازلات الممكنة (التخلي عن الحكم في 2013، إسقاط مطالب تتعلق بالشريعة، تحالفات حكومية بأدوار رمزية) فجأة يظهر أمامها وبأكثر حدة، ومن شخصية تتسم بالتحدي والعناد.
وزادت كلمة قيس سعيد بمناسبة شهر رمضان في الضغط على النهضة وتخويفها من “السيناريو المصري” حين جمع رئيس الجمهورية بين الإسلاميين وجمعية (اتحاد) علماء المسلمين، ما أوحى لها بأن الرجل جاد في التصعيد، وأن شكوكها بشأن لحاقه بالحلف المعادي تبدو أقرب إلى الحقيقة، وهو ما يعني أن استراتيجية التهدئة والمناورات الهادفة لاستفزازه وإظهاره في موقف الضعيف والمعزول لم تعد ملائمة في المرحلة الجديدة.
وجاء خطاب الرئيس سعيد الأحد في مناسبة عيد قوات الأمن ليظهر أن الرجل جاد في تجميع أوراق القوة بيده في معركة ليّ الذراع القادمة. وجاءت خلال المناسبة إشارات في الخطاب، كما في ملامح الرئيس ونظراته، إلى الغنوشي وبعض المقرّبين منه، وخاصة صهره وزير الخارجية الأسبق رفيق عبدالسلام الذي بات متخصصا في الهجوم على قيس سعيد.
وبات الحديث عن مواجهة مرتقبة بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان أمرا متوقعا، وهناك من يغذيه ويصفق له سواء بالتسريبات أو الإشاعات وخطاب التحريض. لكن الأمر يبدو أقرب إلى كسب مواقع متقدمة في معركة الصلاحيات بين قيس سعيد والغنوشي أكثر من كونه رغبة في التصعيد على خطى السيناريو المصري.
ومعركة الصلاحيات هي أساس الأزمة الحالية التي تعيشها تونس، وكل حديث سواه عن اختلاف البدائل والوسائل والتحالفات الداخلية والخارجية، يصب في خدمتها.
والقصة انطلقت بعد فوز قيس سعيد بالرئاسة، وهو شخص من عامة الناس ولا يمتلك أيّ حزب أو تحالف يحميه، ليجد نفسه بالرغم من حصوله على دعم شعبي كبير بلا صلاحيات، وأنه بالكاد يسمح له بأن يلعب دور الديكور للانتقال الديمقراطي الذي يسبح في الصراعات الأيديولوجية والسياسية منذ يومه الأولى.
وعمل الغنوشي على استثمار وضعية الرئيس سعيد، الذي يفتقر لآلة حزبية وسياسية تحميه، ليتحرك وكأنه الشخصية السياسية الوحيدة في البلاد، فهو رئيس الحزب صاحب التمثيلية الأكبر في البرلمان، والأكثر تنظيما وتماسكا وعلاقات في الداخل والخارج، وهو رئيس البرلمان. وضم إلى كل ذلك مهمة العلاقات الدبلوماسية في مهمة فهمت على أنها مسعى لمحاصرة سعيد وحصره في دور الديكور الديمقراطي الذي وضعه دستور 2014.
ومن هنا تحرك سعيد في ردة فعل على الاستهانة به وبدوره، واستفاد من تحالفه مع خصوم النهضة لإسقاط حكومة الحبيب الجمني، والتفرد بتعيين رئيس الحكومة (إلياس الفخفاخ، ثم لاحقا هشام المشيشي). كما وظف اختصاصه كأستاذ في القانون الدستوري وعلاقاته الواسعة برجال القانون لفتح ثقوب في جدار الحصار الذي مارسه دستور 2014 على دور رئيس الجمهورية مقابل إعلاء صلاحيات البرلمان ورئيس الحكومة، وهو نظام سياسي دافعت عنه النهضة ونجحت في تمريره.
هي معركة رد اعتبار، لكنها انزلقت تحت وقع التحشيد السياسي والنفخ الإعلامي الداخلي والخارجي إلى مواجهة لا شيء ينبئ بأنها يمكن أن تتوقف عند “توافق جديد” أو تهدئة على احترام الصلاحيات. وعلى العكس ربما تتطور بأشكال غير محسوبة، وهذا هو سر بيان حركة النهضة الأخير الذي يظهر تخوفا واضحا من أن “إقحام المؤسسة الأمنية في الصراعات يمثل تهديدا للديمقراطية والسلم الأهلي ومكاسب الثورة”.
وغطت معركة الصلاحيات على معارك أهم وذات أولوية في البلاد، مثل معركة مواجهة الوباء وخسائره التي لم تعد تتحملها البلاد، ومعركة الاقتصاد المتهاوي بسبب تخلي الحكومات المتتالية عن دورها والاكتفاء بإدارة الملف الاقتصادي في سياق اللعبة السياسية، وخاصة تجنب الإصلاحات العميقة تحسبا لإثارة غضب الاتحاد العام التونسي للشغل.
ولا شك أن إدارة معركة الصلاحيات بعيدا عن مشاغل الناس وفي قلب أزماتهم سيفقدها عمقها الشعبي مع الوقت، كما سيفقدها الاهتمام الخارجي الذي يسعى كل طرف للاستفادة منه وإظهار نفسه ماسكا بأوراق اللعبة وبديلا مؤتمنا على توازن المصالح.