إقالة الوزير وحرج المشيشي والغنوشي من نجاح الرئيس
مختار الدبابي
أربكت مبادرة الرئيس التونسي قيس سعيد بالتواصل مع العالم والحصول على اللقاحات في فترة وجيزة الحكومة التي يسيطر عليها خصومه، وجعلها تتصرف بتوتر شديد، وتعمل على التغطية على تلك المبادرة بافتعال الأزمات.
وبقطع النظر عن صراع الصلاحيات الذي سيطر على البلاد لأكثر من عام وعطّل كل مؤسساتها، فإن قيس سعيد أثبت أنه أكثر قدرة على إفادة البلاد حتى في مجال هو بالدرجة الأولى ضمن صلاحيات الحكومة وتحتكره ولا تريد من يقترب منه، وهو مجال الصحة، في ذروة أزمة الوباء التي عجزت تونس عن مواجهتها.
قيس سعيد وباتصالات محدودة في الوقت، استطاع أن يجلب للبلاد دعما من كل اتجاه، عربيا ودوليا، حيث تدفقت المساعدات من السعودية ومصر والإمارات والكويت وقطر وتركيا والجزائر والمغرب وموريتانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وهو الأمر الذي لم توفق فيه حكومة هشام المشيشي المدعومة من حزام برلماني على رأسه حركة النهضة الإسلامية.
وفي ردة فعل أولى على نجاح قيس سعيد في جلب اللقاحات للبلاد، قام المشيشي بإقالة وزير الصحة فوزي مهدي المحسوب على الرئيس سعيد، ووصف قراره بفتح باب التلقيحات يوم العيد بالإجرامي والشعبوي، في خطوة بدا واضحا أنها ردة فعل عشوائية لتخفيف الضغط عن سلبية الحكومة التي ظلت لأشهر تراوح مكانها.
أولا رئيس الحكومة سمع وتابع كما التونسيون جميعا بيانا من وزارة الصحة يدعو من لم يحصلوا على اللقاح إلى التوجه لمراكز التلقيح يوم العيد واليوم الذي بعده، وتم توزيع هذا البيان على نطاق واسع في الإعلام المحلي كما في مواقع التواصل الاجتماعي.
بقطع النظر عن صراع الصلاحيات الذي سيطر على البلاد لأكثر من عام، فإن قيس سعيد أثبت أنه أكثر قدرة على إفادة البلاد حتى في مجال هو بالدرجة الأولى ضمن صلاحيات الحكومة
ولم يتحرك المشيشي لنفي البيان بصفته رئيسا للحكومة ولا بصفته وزيرا للداخلية لأن تجميع الآلاف من الباحثين عن اللقاح في مراكز التطعيم دون أيّ استعداد من الجهات الأمنية والصحية كان ينذر بكارثة، أو جريمة كما وصفها المشيشي. والسؤال لماذا لم يتحرك رئيس الحكومة أو يصدر بيانا تحذيريا، لماذا لم تصدر حركة النهضة بيانا، وأين اختفى رئيسها راشد الغنوشي الذي كان لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتحدث فيها، ولماذا سكتت بقية كتل وأحزاب الحزام السياسي للحكومة؟
الأمر واضح.. هناك فرضيتان؛ الأولى أن الأمر لم يلفت نظرهم، وأرادوا توظيف حملة اللقاح لحسابهم السياسي، وهنا تثبت محدوديتهم في التقدير والتوقع ويتحملون مسؤولية ذلك، خاصة أن الوزير هو عضو فريق حكومي يفترض أن يكون بينهم اجتماعات متواصلة لإدارة أزمة الوباء، وأنهم يخططون لكل كبيرة أو صغيرة.
أما الفرضية الثانية فتقوم على معرفة مسبقة بمخاطر هذه الخطوة على أمن الناس وصحتهم خاصة أن اليوم كان عيدا، وكان الحد الأدنى من التوقع سيكشف عن إقبال كبير خاصة في ظل الأخبار السيئة لأعداد الضحايا والجرحى بسبب الوباء.
ومثلما يتهم المشيشي ومحيطه ونشطاؤهما على مواقع التواصل الوزير المقال بتنفيذ مؤامرة تثير غضب الناس على الحكومة، فإن الشق المقابل يقول إن الوزير دُفع من رئيس الحكومة واللجنة العلمية إلى مغامرة غير محسوبة من أجل تبرير قرار إقالته الذي كان معدا سلفا.
إذا كان الوزير بهذا السوء، وإذا كان محسوبا على شق الرئيس سعيد، ورفض التقيد بخطط الحكومة وأجندتها، فلماذا لم تتم إقالته والبحث عن غيره لقيادة هذه المعركة المصيرية، هل ترك الرجل لأجل هذا التوقيت، وهل صراع الصلاحيات يسمح بأن يوضع أمن الناس وصحتهم حطبا للمعركة.
من الواضح أن هناك لعبة سياسية وراء مغامرة يوم العيد بتجميع عشرات الآلاف من المواطنين للحصول على اللقاح دون تنظيم وفي ظل كميات محدودة من اللقاحات، ما دفع إلى فوضى عارمة وتدافع بالقوة للوصول إلى مراكز التلقيح في مشهد زاد من الإساءة إلى صورة تونس.
المغامرة تهدف إلى وضع الوزير في الواجهة، وتحميله مسؤولية إخفاق الحكومة في جلب اللقاحات خلال الأشهر الأخيرة، فضلا عن غياب استراتيجية ميدانية واضحة لمواجهته بالرغم من أن الموجة الجديدة كانت متوقعة.
اكتفت الحكومة برمي المسؤولية على اللجنة العلمية التي كانت تتحرك بإمكانيات محدودة وفي ظل حالة من الإرهاق طالت من بقي من العاملين في قطاع الصحة، وكثير منهم هاجروا وبحثوا عن فرص أفضل بدل أن يدفعوا فاتورة الفشل الحكومي خاصة بعد وفاة أعداد من زملائهم في المعركة.
كما لم تفلح الحكومة في تنفيذ الخطة الأهم، وهي خطة التوقي من الفايروس، التي لا تكلف الكثير من المال، حيث غلب على مواقفها التذبذب والتناقض، فهي من ناحية تتخذ قرارات قوية بشأن الإغلاق أو منع التجمعات، لكنها سرعان ما تضعف عند التنفيذ، وترضخ للضغوط.
فشلت كل خططها في التخفيف من انتشار الوباء بعد أن سكتت عن تظاهرات كبرى نظمتها أحزاب بعضها في الحزام السياسي مثل حركة النهضة، أو خارجه مثل الحزب الدستوري الحر الذي تتزعمه عبير موسي، وكذلك الأمر لتجمعات الاتحاد العام التونسي للشغل.
وبان ضعف هذه الحكومة وعجزها بشكل جلي في الموقف من المؤتمر الأخير للاتحاد، حيث سمحت بعقده ثم أمرت المسؤولين المحليين برفضه قبل أن تعلن وزارة الصحة عن السماح بعقد مؤتمر ضم العشرات من المؤتمرين في أوضاع شديدة التعقيد.
الحكومة اكتفت برمي المسؤولية على اللجنة العلمية التي كانت تتحرك بإمكانيات محدودة وفي ظل حالة من الإرهاق طالت من بقي من العاملين في قطاع الصحة
وبسبب هذا الضعف، رفض الناس تطبيق أوامر بالحد من التجمعات ورفضوا التباعد خاصة في المناطق الداخلية، ما أدى إلى توسع دائرة الضحايا في محافظات مثل القيروان وجندوبة وسيدي بوزيد والقصرين، وقاد إلى عجز المستشفيات وكشف عن محدودية كبيرة لدى تونس في مواجهة الوباء في توفير الأوكسجين وأجهزة التنفس والأسرّة.
وحين تحركت الحكومة إلى الخارج بحثا عن الدعم لم تجد لديها أصدقاء، فالعالم كان يتابع تفاصيل الصراع على الصلاحيات، ويعرف وزن هذه الحكومة ومحدودية الإصلاحات التي يمكن أن تقوم بها، ومدى قدرتها على إقناع الشارع بهذه الإصلاحات، وهو ما دفع بصندوق النقد الدولي إلى رفض تسليمها القسط الأخيرة من القرض.
وزار المشيشي ليبيا وبعدها قطر في ضوء حملة إعلامية قوية تقول إنه سيحصل على دعم مالي قوي وإن قطر وحدها ستعطيه مليوني جرعة من اللقاحات.
وشاركت في تلك الحملة وسائل إعلام محسوبة على حركة النهضة زعمت أن رئيسها راشد الغنوشي مهّد لتلك المساعدات بعلاقاته الخاصة، لكن ذلك لم يفض إلى أيّ نتيجة، ولم تحصل تونس باتصالات المشيشي والغنوشي على أيّ مساعدات.
وإذا كانت الحكومة بهذا المستوى من العجز، ما الذي يدفعها إلى افتعال الأزمات للتغطية على نجاح قيس سعيد في جلب اللقاحات بعلاقاته الخارجية، ألم يكن جهده منقذا لها وساترا لمحدودية تحركها وعجزها عن إنجاد الناس؟ أليس الأولى أن يتم التغاضي عن الحسابات السياسية ولو إلى حين ووضع اليد في اليد لأجل الخروج من المحنة بقطع النظر عمّن كسب ومن خسر بالنقاط أو بالضربة القاضية.
والآن ماذا ستفعل الحكومة بعد إقالة الوزير، وعلى من ستلقي بمسؤولية فشلها في إدارة المعركة، ومن المسؤول عن الانقسام الحاد بين المؤسسات في المرحلة القادمة، فالرئيس الذي يمتلك بين يديه مخزون اللقاحات الذي جلبه بعلاقاته قرر أن تتولى الصحة العسكرية مهمة الحرب على الوباء، وماذا ستفعل وزارة الصحة، هل ستكتفي بالبيانات والمؤتمرات الصحافية.