مصراتة والدبيبة وطريق المصالحة مع النظام السابق
الحبيب الأسود
جاء الإعلان عن الإفراج عن الساعدي القذافي بعد مرور أكثر من سبع سنوات على استلامه من النيجر في صفقة غامضة، وثلاث سنوات على تبرئته من جميع التهم المنسوبة إليه، وبعد رحلة طويلة من التعذيب البدني والضغط النفسي، ولاسيما في سجن الهضبة زمن إدارته من قبل الإرهابي خالد الشريف القيادي في الجماعة المقاتلة، ليضع نقطة مهمة في رصيد رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة الذي لا يتحرك إلا من خلال حسابات مضبوطة وتوافقات مسبقة سواء مع الزعامات الجهوية والقبلية في مصراتة أو مع الحليف التركي وأتباعه المحليين. ورغم تبني المجلس الرئاسي للمبادرة، إلا أن جميع المؤشرات تدل على أن القرار الرسمي صدر من مصراتة بإعطاء الضوء الأخضر للدبيبة ليعطي الإذن بالإفراج عن الساعدي.
منذ أبريل الماضي، بدأ الحديث عن ضرورة إطلاق سراح المعتقلين خارج القانون، سواء ممن برأهم القضاء أو ممن لم تتم محاكمتهم منذ سنوات، وبعضهم معتقل منذ عشرة أعوام لأسباب لا علاقة لها بإحقاق الحق وتكريس العدالة، وإنما جاءت في سياق هيجان ميليشياوي بخلفيات مناطقية أو عقائدية ومن منطلق بطش من يعتبر نفسه منتصرا على من يعتبره مهزوما بعد أحداث العام 2011، وإذا كان لا بد من كلمة حق، فيجب أن تقال في النائب العام الصدّيق الصور الذي سعى دائما إلى عدم التورط في حالة الانفلات الميليشياوي والرعونة السياسية، حيث رفض تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة في العام 2015، واحترم سيادة القضاء ولم يتدخل في قراراته، وتعامل مع ملف رموز النظام السابق بكثير من الهدوء، وساعد على إيجاد مخارج للإفراج عن أغلبهم سواء بتبريرات صحية أو إنسانية، وكان ممن يقيمون اليوم بما بعده، وخلال الأشهر الماضية عمل بقوة على إقناع الحكومة بضرورة الإفراج عمن يقبعون خلف القضبان دون سند قانوني ومن بينهم الساعدي القذافي وعبدالله منصور، وكان في نفس الوقت يدعو إلى ضرورة تأمينهم عند تحريرهم حتى لا يقعوا صيدا في أيدي المنفلتين، كما كان لوزيرة العدل حليمة عبدالرحمن موقف حازم في هذا الاتجاه طالما عرّضها لحملات تشويه وإساءة متعمدة من قبل حمّالي الحطب وهؤلاء الذين يصبون الزيت على نار الفتنة.
ولكن القرار الرسمي كان يطبخ في مصراتة، حيث بدأت لغة العقل تتغلب على الفاعلين الأساسيين، وحيث تحول ملف أنصار النظام السابق إلى ورقة مهمة لإصلاح ذات البين ورتق النسيج الاجتماعي في البلاد بعد التشققات التي أصابتها خلال الأعوام الماضية. فمصراتة مدينة ذات ثقل وهي تطمح إلى الزعامة السياسية لكنها لا تتحقق لها إلا بالمصالحة مع القبائل والمدن الداخلية، وهي عاصمة اقتصادية وصناعتها وتجارتها تحتاجان إلى الأسواق في كامل أرجاء البلاد، ولا يمكن أن تعيش في ظل عزلة أو مقاطعة دائمة، كما أنها تمتلك قوة مسلحة جرارة ولكنها لن تستطيع أن تحقق بها السيطرة المطلقة على البلاد في ظل توافقات إقليمية ودولية وقرارات أممية بوقف إطلاق النار وكبح جماح الميليشيات والاتجاه نحو حلها.
لو عدنا قليلا إلى الوراء سنكتشف أن الدبيبة كان دائما مع فكرة المصالحة وطي صفحة الماضي، وهو لا يمكن أن يكون معاديا للنظام السابق الذي كان جزءا منه في يوم من الأيام وأحد مهندسي بنيته التحتية ومشاريعه الكبيرة التي كانت قد تمت برمجتها في مخطط “ليبيا الغد”، وأسرته كانت قريبة من أسرة القذافي ومستفيدة منها، كما أن الدبيبة ينظر إلى المستقبل بطموح سياسي واضح ويرغب في تحقيق زعامة قد تستمر سنوات طويلة سواء لشخصه أو للتيار الذي يمثله والذي قد يتحول إلى حزب فاعل، وبالمقابل هناك من ينافسه على ذلك، وخاصة في مصراتة، ومن أبرزهم وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا الذي يتحرك على أكثر من صعيد في الداخل والخارج لتقديم نفسه زعيما مستقبليا للبلاد، ويحاول أن يقود تيارا للمصالحة الوطنية التي كان بعيدا عن التفكير فيها سابقا، سواء عندما كان قائد ميليشيا أو عندما كان وزيرا في حكومة السراج.
اتسعت دائرة الداعين للمصالحة في مصراتة، وانفتحت جسور للتواصل بين مختلف الأطراف، كما برزت خلافات واضحة حول الموقف من التدخل التركي والعلاقة مع المشير خليفة حفتر ومع القبائل والفعاليات الاجتماعية، وبرزت بقوة نزعة القطيعة مع فلول الجماعات الإرهابية القادمة من الشرق، وتم استقبال وفود من القبائل المحسوبة على النظام السابق ومنها قبيلة القذاذفة، وكانت أغلب الأصوات تدعو إلى طي صفحة الماضي بالإفراج عن بقية المساجين في سجون المدينة، ووصل الأمر إلى حد التعبير عن الاستعداد للكشف عن مكان دفن الزعيم الراحل معمر القذافي ونجله المعتصم بالله ووزير الدفاع أبوبكر يونس جابر.
وكان من مخرجات زيارة وفد القذاذفة إلى مصراتة الاتفاق على الإفراج عن الساعدي القذافي، وتم تبليغ الدبيبة بذلك، فكلف فريقا من مكتبه بتنفيذ كافة الإجراءات الضرورية، ومن ذلك تأمين الخروج من السجن إلى المطار والنقل إلى إسطنبول على متن طائرة خاصة، كما كلف الدبيبة أحد أقاربه بمرافقة الساعدي في تلك الرحلة، كما كان على متن الطائرة ذاتها اللواء ناجي حرير القذافي مساعد آمر كتيبة الحماية الشخصية للقذافي، وفي الأثناء وعد أعيان مصراتة بأن يتم قريبا الإفراج عن أبناء القذاذفة الآخرين ولعل أبرزهم منصور ضو وأحمد إبراهيم.
مهما كانت خلفيات المبادرة، فإن الدبيبة استطاع أن يفتح ثغرة مهمة في جدار المواجهة لإضاءة جزء من طريق المصالحة، وهو يدرك أن مستقبل ليبيا الحقيقي يبدأ من توفير مناخ اجتماعي جيد تحتل فيه القبائل دورا مؤثرا، ولديه قناعة بأن القاعدة الشعبية للنظام السابق واسعة في أغلب مناطق البلاد بما فيها المنطقة الغربية، وأن التوافق مع “الخضر” ضروري لتشكيل المرحلة القادمة على أسس صلبة ولاسيما أن البلاد تتجه إلى تنظيم انتخابات حاسمة.
انطلقت عملية المصالحة من شرق البلاد، عندما أقر مجلس النواب في العام 2015 من مقر انعقاده في طبرق قانون العفو العام، ونفذه في مناطق سيطرة الحكومة المؤقتة آنذاك برئاسة عبدالله الثني، وأصرّ وزير العدل الراحل مبروك قريرة على تمتيع سيف الإسلام القذافي به، ويضم الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر عددا من خيرة القادة العسكريين للنظام السابق، حيث أن ثنائية “الثوار” و”الأزلام” غير مطروحة منذ سنوات في برقة وفزان، ولكن كل تلك الخطوات كانت تنعت في مصراتة ومدن أخرى بأنها ثورة مضادة وتحالف مع أعداء ثورة فبراير، ولكن اليوم هناك تحولات في وجهات النظر، فالتحالف مع الأزلام بات أملا للكثير ممن عقلنوا مواقفهم الثورية، وصار جزءا مهما من الخطط التكتيكية والاستراتيجية للفاعلين الأساسيين في المشهد السياسي في غرب البلاد، وأصوات “الخضر” أصبحت محل تنافس كبير في صناديق الاقتراع المرتقب فتحها في الرابع والعشرين من ديسمبر.
لقد أعطى الإفراج عن الساعدي القذافي نقطة مهمة لعبدالحميد الدبيبة، ولكن الأهم من ذلك أنه يعد بتجاوز ليبيا لأكبر أزمة كانت تواجهها وهي الشرخ الذي أصاب النسيج الاجتماعي والذي يحتاج إلى رتق عاجل يسمح بإعادة بناء الثقة بين الجميع ويشعرهم بالأمان، فالأمان هو مفتاح القلوب وسفينة الأوطان إلى شاطئ السلام.