الشيخ حمد، قطر وقناة الجزيرة
علي الصراف
عندما يمر الإنسان بتجربة عنيفة، مؤلمة وجارحة، ولا يستطيع التغلب عليها، فماذا يفعل؟
لقد وهبه الله القدرة على النسيان. وهذا خير ما يمكن للمرء أن يفعله حيال قناة الجزيرة التي احتفل أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بذكرى تأسيسها الخامسة والعشرين وكأنها معجزة تحريرية، كما قدمها كمنبر تضحيات وشهداء، ودافع عنها كمشروع “إعلامي يواجه التحديات”.
ظاهر الجزيرة هو أنها “مشروع إعلامي”، ولكنها “مشروع سياسي” أيضا. والكلام فيها بوصفها منبر “خدمات إخبارية” لا يفعل سوى أن يستغفل الناس. ولكنها بالنسبة إلى من اكتووا بالنار مصدر لنكء الجروح من جديد، ورش المزيد من الملح عليها.
أحد الجروح هو أن الشيخ حمد أراد من الجزيرة أن تكون وجها لمشروعه الخاص لتمزيق دول المنطقة، وجعلها ملعب حروب أهلية ونزاعات قبلية ودينية وسياسية من كل صنف. وعندما افتضح هذا المشروع، وظهر عاريا “كما خلقني ربي”، فقد اضطر الشيخ حمد إلى التنحي عن السلطة. ولكن الجزيرة لم تتنحّ عما كانت تفعله. وظل مشروعها قائما.
كأداة للتمزيق والتخريب ونشر الفوضى، حققت الجزيرة هدفها بالفعل. وهذا ما شجع الشيخ حمد لكي يعود من عالم الخزي الذي تركه، ليحتفل بما تم تحقيقه.
سوف يقال طبعا إن هذه السطور جزء من التحامل على الجزيرة وعلى قطر. ولكن هذا كلام سخيف فعلا. فما لا يمكن للبصير أن يتجاهله هو أننا بقينا ندفع الثمن بانهيارات سياسية كان يمكن تلافيها، ونزاعات أهلية كنا في غنى عنها، وذلك بكل ما اندفعت قطر لتموله على جنبات ذلك “المشروع الإعلامي” من أحزاب متطرفة وتنظيمات إرهابية وفوضى سياسية وضحايا وخسارة ثروات وزمن.
لا يمكن الفصل بين الجزيرة وبين المشروع التخريبي الذي قاده الشيخ حمد. وأستطيع الزعم أنه لن يفلت من الحساب أبدا. لا هو ولا جزيرته. فالضحايا الذين سقطوا في الحرب الأهلية التي مولتها قطر في سوريا، والخراب الذي دافعت عنه في مصر، ونظام الفشل الإخواني الذي طبلت له في تونس، والدمار والانقسامات التي ظلت سارية في ليبيا، كانت جزءا من “مشروع قطر” الذي تحولت الجزيرة إلى منبر إعلامي له. وهذا له ثمن. ويتوجب أن يُدفع وأن يحاسب عليه مرتكبوه بوصفهم مجرمي حرب مارسوا الدعاية لتغذية مشروع تمزيق، ولخدمة أغراضٍ استجلى الكثير من الباحثين تفاصيلها، حتى أسفرت عن العشرات من الكتب.
السؤال ليس ما إذا كانت سطور كهذه “تتحامل” على قطر أو على الجزيرة. السؤال الصحيح هو: لماذا تتحامل علينا قطر؟ ما الذي فعلناه؟ ماذا فعلت ليبيا لقطر لتصبح ضحية لمشروع تنظيمات إرهاب وعصابات سياسية؟ وماذا فعلت سوريا لقطر لكي تتحامل عليها إلى تلك الدرجة التي جعلت وزير خارجية الشيخ حمد يتعهد بـ100 مليار دولار لتمويل الجماعات المسلحة التي أسقطت سوريا ولم تسقط نظام بشار الأسد. وماذا فعلنا لقطر لكي تسخّر أموالها لدفع بلد بحجم مصر إلى حافة الهاوية؟
هل يريد الشيخ حمد أن يسمع تسجيلاته مع معمر القذافي من جديد لكي يتذكر ما نحاول أن ننساه؟ ألم تكن الجزيرة هي النسخة الإعلامية لهذا المشروع؟ أم ترانا نتحامل على مَنْ كان من الخير لضحاياه أن يفقدوا الذاكرة؟
صحيح تماما أن الجزيرة أخرجت الكلام الذي كان يقال من تحت الطاولة ليكون فوقها. ولكن هل يوجد غبي واحد في العالم لا يعرف أنها فعلت ذلك ليس من أجل أن تنشر الغسيل الوسخ، وإنما من أجل أن تدافع عن مشروع أوسخ.
جميلٌ أن نتجادل. وجميلٌ أن نكشف عن خلافاتنا واختلافاتنا. وجميل أن نُعرّي عيوبنا. بل وجميل أن نُعرّي صمتنا بشأنها. هذا نصف المعادلة. النصف الآخر هو من أجل ماذا نتجادل؟ وفي هذا النصف بالذات يتحدد ما إذا كانت الجزيرة تاجا من ذهب، أو خشبا مطليا بماء الترهات.
الشيء الوحيد في “المهنية” المزعومة هو أن الجزيرة استثمرت في الضجيج وسط بيئة كان يغلب عليها الصمت. كانت شيئا يشبه صبيا عاش في بيت لا يتحدث فيه أحد إلا همسا، فانفجر ليصرخ ويشتم ويكسر الأثاث ويضرب الضيوف بالأحذية.
وهل كان ذلك “رأيا ورأيا حرا” أم كان مجرد محاولة لجعل الصفاقة وقلة الأدب هي أداة “الحوار المثير”؟
ما العجب في أن تكون حوارات كهذه “مثيرة”؟ كل شيء شاذ مثير أصلا. والسعي للإثارة كان لا بد له أن يصل إلى تبادل الأحذية. لماذا؟ لأن سياقات الهجوم والهجوم المضاد بين سطحيين وسطحيين مثلهم هي التي أوصلتهم إلى ذلك.
وأي حوارات تلك عندما تأتي بصحافي ضعيف لكي يدافع عن السعودية، بينما يقابله صحافي شرس سمحت له أن يعد عدته جيدا؟
ألاعيب أطفال كهذه هل تقيم احتراما للمهنية؟
الذين قدمتهم الجزيرة لكي يتشاتموا إنما غذت بهم الذين يحملون السلاح والسكاكين لكي يخوضوا في ما بينهم “حوارات” مماثلة في حروب الشوارع.
لقد كان هذا هو الهدف. وهو هدف مطابق تماما لـ”مشروع قطر”.
لقد كانت فلسفة الجزيرة هي هذه على وجه التحديد: أن نتصارع، أن نهدم، وأن نتشاتم، وأن نجعل التعايش مستحيلا بين الفكرة والفكرة. إنما لكي تغذي فكرة التخريب والقتل وإشاعة الفوضى، والعجز عن التوافق على أي شيء. وهذا ما لا علاقة له بأي ديمقراطية.
الديمقراطية مشروعُ تعايشٍ وبناء. إنها مشروعٌ لأرضٍ مشتركةٍ بين الرأي والرأي الآخر وليست مشروعا للقذف والشتم بين الرأيين. كما أنها ليست مشروعا للتناحرات “الفضائية” التي تنقلب إلى تناحرات دموية في الميدان. إنها اتجاه مشترك نحو هدف عقلاني ما وليست صراعا بيزنطيا في لا اتجاه.
لقد تم صنع الجزيرة لتحقق ما حققت. ومن ثم لتقف في مكانها الفوضوي بالذات باعتباره خيارا مقصودا بذاته، لكي تكون منبرا للتناحرات وممثلا للجدل الفارغ.
ولم يمض وقت طويل حتى بات واضحا أنها أصبحت منبرا رسميا للإخوان المسلمين، لأن هذه العصابة المافيوية كانت هي “المرشد” الذي سيأخذنا إلى التمزق والتفتيت؛ هي “مكتب الإرشاد” الذي سيكفل جعل التناحرات حروبا أهلية تدور في كل بيت، وبين الجار وجاره.
ولقد دافعت قطر عن دور الجزيرة، لأن مشروع التخريب صار مشروعها الأوحد، حتى بات من الصعب التمييز ما إذا كانت قطر هي الجزيرة أو ما إذا كانت الجزيرة هي قطر.
لقد جلب الشيخ حمد معظم موظفي الجزيرة بشرائهم من “بي.بي.سي” العربية قبل أن تُغلق في ذلك الوقت.
هؤلاء يعرفون أن وظيفة التلفزيون المثالية هي “الإخبار والتنوير والتسلية”. هذا هو المنهج الذي تقوم عليه تلك المؤسسة الإعلامية الضخمة. وتقف وراءها استراتيجيات يضعها مجلس حكام. وهي استراتيجيات بناءة، بالمعنى المحلي، وغير بناءة طبعا بالمعنى الذي تخدم به مصالح بريطانيا الخارجية. ولكنها في الحالتين تمرر رسالتها بتأنّ وهدوء، ومن دون صخب.
خذ المثل التالي: البريطانيون في الخمسينات من القرن الماضي كانوا بخلاء الطباع. بعد خمسين سنة صاروا شعبا كريما بفضل مثابرة الـ”بي.بي.سي” الناعمة. وهي مثابرة كانت تقصد أن تحوّل النتيجة إلى ثقافة. ولكي تصبح الثقافة الجديدة راسخة فعلا، فإنها تحتاج إلى تغذية على مدى طويل من الوقت. ولك أن تتخيل كم من البرامج والمسلسلات الجادة والهزلية التي كان يجب إعدادها لكي لا تكون النتيجة مجرد نصيحةٍ أو قولٍ فاقع أو عملٍ من أعمال التأديب القسري.
الديمقراطية شيء مماثل. ولكن، ماذا فعل خريجو هذه الـ”بي.بي.سي” عندما جاؤوا إلى الجزيرة؟ لقد قاموا بالصراخ وروجوا للفوضى، أثاروا التناحرات، وسمحوا برفع الأحذية، ظنا منهم أنهم يصنعون “ثورة” من أجل “الديمقراطية”.
ثورة القنادر التي اندلعت في الجزيرة كانت شيئا مثيرا حقا. وهي ثورة لا علاقة لها بثقافة الـ”بي.بي.سي”، ولا أي ثقافة أخرى غير قلة الأدب. لماذا؟ لأن “مشروع قطر” كان هو نفسه مشروعا قليل الأدب.
جاء الشيخ حمد ليحتفل بمرور 25 عاما على تأسيس الجزيرة بينما شعوب عربية عديدة ما تزال تحصي الجثث. عار كهذا لا يُحتفل به. ستره ونسيانه هو الخيار الأمثل.