موسم التطويق السياسي لتركيا
محمد أبو الفضل
استغلت تركيا تدهور الأوضاع العربية ونجحت في توظيف بعض الأوراق السياسية الفترة الماضية، بما ساعدها على كسب نفوذ طالما سعت له، فسوريا والعراق وليبيا دخلت في معاناة داخلية، ومصر كانت مشغولة بترتيب أولوياتها التي لم تكن تركيا من بينها، والسعودية نأت بنفسها عن الدخول في مواجهة مباشرة مع أنقرة.
لم تحقق تركيا المكاسب التي خططت لها جراء توسيع نفوذها وأوقفت أو قلصت القوى الدولية دعمها كأنها استنفدت أغراضها منها، وبدأ تغولها يثير أزمات للدول التي رعت أو صمتت على تمددها، وبدأت تتزاحم عليها المشكلات الداخلية.
أضف إلى ذلك صمود النظام السوري واستفاقته على هيمنة تركيا لجزء من أراضيه، وانزعاج القاهرة من توغل أنقرة في ليبيا ثم القبول بالحوار السياسي معها، ومراجعة كل من السعودية والإمارات لمصفوفتهما الإقليمية ومن بينها شكل العلاقة مع تركيا.
كما أنها فقدت جزءا معتبرا من زخم المتاجرة بورقة الإسلام السياسي، وما تكبدته جماعة الإخوان من خسائر في المنطقة جعلتها غير قادرة على مواصلة صعودها في دول سيطرت فيها على حكوماتها، مثل تونس والمغرب وقبلهما السودان.
عند هذه اللحظة بدأ النظام التركي انحناءة سياسية واضحة، أدت إلى اضطراره للانفتاح على كل من مصر والسعودية والإمارات وغيرها، وسواء أكانت الانحناءة طويلة أو قصيرة المدى فقد أفضت إلى هدوء على صعيد علاقات أنقرة الإقليمية والدولية دون أن تقودها إلى تغير هيكلي في تصرفاتها.
إذا كانت الخطوة الأولى جاءت من تركيا في مجال إعادة النظر في تصوراتها، فاستجابة بعض القوى الإقليمية لها على الرغم من عدم القناعة التامة بوجود تحول حقيقي في توجهاتها تعبر عن رغبة في الاحتواء على حساب الصدام السياسي الذي لعبت ممارسات أنقرة دورا في تغذيته.
لم يغير النظام التركي حساباته مع الدول التي خاض معها جولات من المشاحنات، لكنه أدخل تعديلا في سياساته معها ودخل في محادثات مع بعض القوى المختلف معها، حققت نتائج متفاوتة، وفي المحصلة هدأت المشاحنات التي تصاعدت الأعوام الماضية.
وجدت تركيا حاجة ضرورية في التهدئة الظاهرة مع خصومها والعودة إلى شعارها السابق “تصفير الأزمات” الذي تزامن مع تغير في تقديرات الدول التي اشتبكت معها دفعتها للتجاوب مع الخيوط التي مددتها، فرأينا تحسنا ملحوظا مع كل من السعودية والإمارات، ونسبيا مع مصر.
تشير الاستدارة التي حدثت مع تركيا إلى أن أسلوبها في التدخلات السافرة في بعض الدول لم يعد يحقق أهدافه، والدول التي تفاعلت مع الرسائل التي بعثت بها أنقرة وجدت في تبني مدرسة الاحتواء أفضلية، فمواصلة الصدام سوف تكون مكلفة للجميع.
بدأ موسم جديد للهجوم السياسي والاقتصادي على تركيا يختلف هذه المرة عن الهجوم السابق الذي كان مبهورا بالتجربة التركية في بداياتها، حيث اكتشفت العواصم العربية التي أعادت النظر في علاقاتها مع أنقرة أن الأخيرة ليست بالنقاء السياسي الذي ساد على الساحة العربية وتجربتها محفوفة بمخاطر انفتاحها على قوى إسلامية متباينة.
يصطحب الانفتاح الجديد من جانب بعض الدول العربية رؤى غير مثالية للنموذج التركي بما يعصمها من الوقوع في الفخ مرة أخرى، إذ أثبتت تجربة التعامل مع تركيا في أوج هيمنتها أنها قوة غير مأمونة، وتسللها الناعم كان مقدمة لخشونة دفع عدد من الدول العربية ثمنا باهظا لها.
استغلت تركيا عوامل القوة الكامنة في اقتصادها بصورة أسهمت في صمودها أمام الكثير من العواصف وتحديها في بعض الأوقات، واستفادت من التطورات التي مرت بها المنطقة عقب موجة ثورات الربيع العربي، والآن يعاني اقتصادها من مشكلات وفقدت الثورات بريقها، ويواجه النظام التركي أزمات مركبة في الداخل.
قرأت الدول العربية التي انخرطت في حوارات مع تركيا هذه التطورات ووجدت أن سياسة الاحتواء أكثر جدوى من الخلاف، وهو تقريبا التوجه نفسه الذي يحكم التغير الحاصل في توجهات أنقرة، أي ما فشلت في الوصول إليه بالقوة تعتقد أنها يمكن أن تصل إليه بالدبلوماسية.
لدى الدول العربية التي قبلت بالتقارب أو تطبيع العلاقات مع تركيا أوراق سياسية يمكن أن تستثمرها في ممارسة ضغوطها على أنقرة إذا وجدت لذلك ضرورة ومن دون حاجة إلى الدخول في مواجهات خشنة، خاصة أن الأجواء التي وظفتها تركيا ومكنتها من توسيع نفوذها في كل من سوريا والعراق وليبيا آخذة في التراجع.
هناك تغير في تعامل بعض القوى الدولية لا يصب في صالح أنقرة يمكن أن يستفيد منه البعض في الضغط سياسيا عليها، ولا تزال تركيا محشورة في شرق البحر المتوسط لم تجد النافذة المناسبة التي تفيدها في الدخول لهذه الساحة كلاعب محوري، ويتم التضييق عليها من قبل الدول الفاعلة في هذا الإقليم كلما حاولت تثبيت أقدامها.
تمكنت تركيا من التمدد على المستوى الإقليمي عندما وجدت بيئة ملائمة لتنفيذ مخططاتها ولم تجد كوابح تفرملها في النقاط التي تمثل ألما في خاصرتها، وأهمها مساندة كل من قبرص واليونان كأكبر دولتين في المنطقة بينهما مشكلات مع تركيا.
تحتفظ القاهرة بهاتين الورقتين وألمحت إلى إمكانية ذلك أكثر من مرة عبر شراكتها معهما في منتدى شرق المتوسط وتطوير العلاقات مع كليهما كلما اشتدت المضايقات التركية لمصر بسبب دعم الإخوان أو جراء تزايد تدخلاتها في ليبيا.
مع الانفتاح العربي على تركيا يمكن أن تصبح هذه النوعية أدوات ضغط سياسية عليها إذا أخلت بتعهداتها لجهة عدم التدخل في الشؤون الداخلية والقبول بعلاقات طبيعية على أساس احترام القانون الدولي، فاليونان انتبهت إلى أهمية بعض الدول العربية، بجانب مصر، والعكس صحيح، حيث يعد تطوير العلاقات المشتركة بين الجانبين وسيلة مهمة لتحجيم خروج أنقرة عن أي تفاهمات واتفاقيات.
تظل قبرص عنصرا أيضا لأن خلافها مع تركيا تتداخل فيه المكونات القومية مع العقائدية مع الأمنية، وأي تلويح بدعمها ربما يكفي لإجبار تركيا على إعادة النظر في أي خروج على النص مع القوى العربية التي تقاربت معها.
ويسير التنويه المصري بدعم وحدة قبرص ضد رغبة تركيا التي تريد تقسيمها للحفاظ على هيمنتها على الجزء الشمالي منها، الأمر الذي يؤدي إلى وقف أنقرة إذا فكرت في مضايقة مصر أو أي دولة عربية تحسنت علاقاتها معها، بمعنى أن قواعد اللعبة تتغير تدريجيا، وما نجحت تركيا في تحقيقه سابقا قد لا تتمكن من تحقيقه لاحقا.
