لا انتخابات في ليبيا والدبيبة في الحكم
الحبيب الأسود
قبل عام، حازت حكومة الوحدة الوطنية على ثقة مجلس النواب خلال جلسة استثنائية انعقدت بمدينة سرت، وذلك بعد أن تعهد رئيسها بعدم الترشح للانتخابات، وبتعيين وزير للدفاع في أقرب وقت ممكن. لاحقا تنكر للتعهدين، وتحول إلى عنصر أساسي في منظومة الصراع، حيث جعل من حكومته عنوانا من عناوين الشقاق المتعمد والبحث عن مبررات فرض حالة الانقسام من جديد، ولاسيما من خلال تحويل الخطاب المعادي للبرلمان وقيادة الجيش أداة لكسب ود الميليشيات والجماعات المتشددة.
كان عبدالحميد الدبيبة قد وصل إلى الحكم بطريقة يشوبها الكثير من الغموض بدءا من ملتقى تونس للحوار السياسي وصولا إلى اجتماعات جنيف التي شهدت انتخابه في سياق صفقة تم الاشتغال عليها مع أطراف عدة، وهو اليوم، وبعد عام من تسلمه مقاليد السلطة من رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، لم يخرج من دائرة الشك، بل إنه مستعد لفعل كل شيء من أجل ممارسة دكتاتورية قفازات ناعمة تليق برجل أعمال مغامر أكثر مما تليق بزعيم سياسي يعرف كيف يتصرف مع الواقع ومجريات الأحداث، وكيف يتراجع خطوة إلى الوراء عندما يجد أن الظروف ليست ملائمة للاستمرار في التعنت والرقص على الحبال.
علينا أن نعترف بأن الدبيبة أحاط نفسه بفريق محترف من صانعي البروباغندا ومن يتقنون لغة النخب السياسية الغربية المضمخة بالعواطف الساذجة وبالحسابات التي عادة ما تكون خاطئة، ولكنها في كل الأحوال تجد من يستمع إليها ويتعاطف معها. يتحدث الدبيبة عن الديمقراطية والإرادة الشعبية وعن مبادئ ثورة السابع عشر من فبراير، ويصر على تنظيم الانتخابات في يونيو القادم ليسلم الأمانة إلى أهلها، والسلطة إلى حكومة منتخبة، مع التعهد من جديد بأنه لن يترشح لتلك الانتخابات، وهو تعهد سيتراجع عنه حتما، وسيقول بأنه كان مجرد موقف أخلاقي لا يعتد به، كما قال سابقا عن تعهده لموعد الرابع والعشرين من ديسمبر.
عندما كلف مجلس النواب فتحي باشاغا بتشكيل حكومة جديدة، منحها الثقة لاحقا، كان يدرك أنه الرجل القوي في غرب البلاد، وصاحب موقف وقرار في مصراتة، وأنه قادر على الانطلاق بليبيا إلى مرحلة الوئام بعد الانقسام، والسلام بعد الصدام، ولاسيما أنه تجرأ على الذهاب إلى بنغازي والاجتماع مع المشير خليفة حفتر بهدف تحديد ملامح المصالحة الوطنية، وخرج من بزة قائد الميليشيا ليرتدي عباءة الزعيم الوطني الساعي إلى إعادة تشكيل الواقع برؤية شجاعة منسجمة مع تطلعات الليبيين بمن فيهم أعداء الأمس.
في الأثناء، تتقدم منفذة السياسات الأميركية في ليبيا ستيفاني ويليامز، لتتصدى لخيارات مجلس النواب وتحاول عرقلة خطوات باشاغا وترعى طموحات الدبيبة للبقاء في الحكم إلى حين تنظيم انتخابات لن تنتظم في يونيو، وتطرح مقترحها بإيجاد قاعدة توافقية بين مجلسي النواب والدولة، وهو ما يعني أن الدبلوماسية المخضرمة التي عادت منذ ديسمبر الماضي لتمارس الوصاية على المشهد السياسي في البلاد من موقعها كمستشارة سياسية للأمين العام للأمم المتحدة، لا تريد للأزمة الليبية أن تنفرج، ولا للاستحقاق الانتخابي أن ينتظم، ولا للمصالحة الوطنية أن تتحقق. وعندما تدعمها السفارة الأميركية في كل خطواتها وحركاتها وسكناتها، فذلك يعني أننا أمام مخطط لتأبيد الصراع بما يخدم مصالح المستفيدين منه.
كيف يمكن للانتخابات أن تنتظم في موعدها والدبيبة الذي يفترض أنه رئيس لحكومة الوحدة الوطنية في قطيعة مع مجلس النواب ومع قيادة الجيش، وخلال الأسابيع الماضية تخلى عن دوره التوفيقي والتوافقي وتحول إلى شخصية انقلابية في بزة أمير حرب أو قائد ميليشيا، وبات كل همه أن يشن حملاته ضد حفتر وعقيلة صالح والنظام السابق، الذي كان يدور في فلكه، ليحظى برعاية الجماعات المسلحة والقيادات الحزبية والجهوية والميدانية المتطرفة والانعزالية، التي ترفض بكل وضوح توحيد المؤسسة العسكرية وإعلان المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي لإخراج البلاد من نفق مظلم طال التوهان فيه.
في ديسمبر الماضي لم تنتظم الانتخابات، وكان الدبيبة أحد أهم الأسباب في ذلك، وهو الذي أراد أن يفرض نفسه مرشحا من دون منافس جدي، وسعى بكل جهده للتحكم في مجريات العملية الانتخابية بوضع اليد على المفوضية والقضاء والإعلام واستغلال مقدرات الدولة للترويج لشخصه وشراء الذمم وتوزيع الوعود على كل الجهات والفئات والطبقات والإثنيات والمكونات الاجتماعية والثقافية للبلاد، وعندما ظهر سيف الإسلام القذافي في الصورة بات كل هدف الحكومة قطع الطريق أمامه وتحييده عن السباق، فالدبيبة لا يريد منافسا جديا، والمقربون منه يعرفون أنه اتصل بحلفائه الأميركان والأوروبيين وأخبرهم بأن الحل في التأجيل حتى لا تفوز روسيا برئاسة ليبيا من خلال فوز المرشح المحسوب عليها.
يدرك الراصدون للأوضاع في ليبيا، أن الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية لن تنتظم، وإذا انتظمت فلن تنجح، إلا إذا تحققت المصالحة الوطنية وتوحدت المؤسسة الأمنية والعسكرية فعليا، واستطاعت الحكومة أن تبسط نفوذها على كامل أرجاء البلاد، وأصبح بإمكان المرشحين أن يتنقلوا في كل المناطق دون استثناء للتعريف ببرامجهم، وتعهد جميع الأطراف بقبول النتائج مهما كانت. أما ما عدا ذلك، فمجرد عبث ومضيعة للوقت، بغاية الاستمرار في لعبة الفساد والابتزاز وهدر المال العام ونهب قوت الليبيين، وهي لعبة تشترك فيها أطراف داخلية وإقليمية ودولية وشخصيات وحكومات وشركات ومصارف ومنظمات ولوبيات.. وغيرها.
محاولات فرض بقاء الحكومة المنتهية ولايتها في الحكم، تمثّل مؤامرة على ليبيا والليبيين ينفذها المستفيدون منها ومن غياب أفق الحل السياسي النهائي، والراغبون في تأجيل لحظة المصالحة الشاملة واستعادة الدولة لسيادتها على مقدراتها، خاصة تلك التي لا تزال محل تجاذب بين القوى الأجنبية المتنافسة على تحقيق أطماعها كالنفط والغاز والأموال المجمدة وعقود إعادة الإعمار وغيرها.
المحاولات التي تبذل للحيلولة دون تسلم باشاغا مقاليد الحكم تشير بوضوح إلى أن هناك قوى خارجية غربية بالأساس لا تريد لليبيا أن يحكمها رجل قوي، قادر على اتخاذ القرارات اللازمة لتوحيد صفوف مواطنيه ضمن مخطط وطني متكامل يقطع الطريق أمام التدخلات الخارجية مهما كان مصدرها.